الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

العائمة النيلـية

تبلغ المسافة من أسوان إلى الأقصر 238 كيلو مترا، بدأت العائمة بالتحرك صباحًا قيل لنا إن محطات التوقف هى: زيارة معبد كوم أمبو، يتبعه معبد دندرة، ثم نعاود الإبحار طوال الليل لنصل الأقصر فى اليوم التالى دون تحديد واضح للوقت لضرورة انتظار الهويس، الذى فى الحقيقة لم تكن لدى أى معلومات عنه غير الجملة الشهيرة «ألحق ابنك وقع فى الهويس»، لذا قررت أن أتعرف عليه وأطرح أسئلتى فيما بعد.



من داخل العائمة 

النيل ذو شخصية طاغية، تسرق منك الكلمات، فى حضرته يسود الصمت، تنتظم الأنفاس المرهقة بعادم العاصمة، شهيق زفير، زفير شهيق، ذلك النسيم الذى يجرى فوق سطح النهر الخالد – ويحق له التسمية – كانت العائمة تبحر بنعومة، صفاء السماء، رقة السحاب، لم أر فى حياتى هذا الامتداد من النخلات الباسقات ترفع أعناقها بمهابة كأنها جنود الفراعنة تتابع رحلتنا وتؤمنها، النهرهنا شابً قويً يفرض وجوده على الرائين، وقررت سماع عبد الوهاب وهو يغرد «النيل نجاشى»، كل حرف كل مقطع موسيقى فيها يمتزج مع النسيم والعائمة والنخيل والحمام العابر فى السماء، هذا اللحن والكلمات العبقرية لم أدركه حقًا إلا فى تلك الرحلة من أسوان للأقصر. 

معبد كوم أمبو 

 رسونا بالعائمة، قال لنا المرشد ستشاهدون الآن معبدًا كبيرًا ومدهشًا، سيجذبكم ويسرق منكم الوقت. خرجنا لنرى العربات ذات الأحصنة «الحناطير» تقف فى صف طويل، العربات المتمسكة بالأرض، تمر السنين متلاحقة قرن وراء قرن، وتأتى الألفية ولا تتغير مثل المعابد التى نزورها، ركبنا لننطلق مسرعين للهدف.

مأسورون بجمال المعبد الواقع فوق ربوة مرتفعة، مطلًا على الضفة الشرقية للنيل، يبهرنا بتميزه المعمارى، علمنا من المرشد أن اسم «كوم أمبو» مكون من شقين، الشق الأول «كوم» بمعنى تل، والثانى «أمبو» المحرف عن «أنبو» أو «نبو» أى الذهب، حيث كانت هذه المنطقة تتحكم فى الطرق المؤدية إلى مناجم الذهب، كما عُرفت فى النصوص المصرية باسم «با-سوبك» أى مقر سوبك الذى عبد فيها منذ عصور ما قبل الأُسرات، معبد كرّس لمعبودين معًا هما سوبك وحورس. كنت أتجول فى أنحائه مفتونة، و أدهشنى أيضا وجود مجموعة من الأدوات الجراحية والطبية المنحوتة عى جدار المعبد والتى مازالت مستخدمة حتى الآن. مستمتعين ومأخوذين بما نرى، وقف المكاريه ينادوننا أمام عرباتهم لأننا كما قال مرشدنا تأخرنا وسلبنا المعبد الوقت.

معبد دندرة 

سارت العائمة مسرعة لنستطيع الوصول لمعبد دندرة فى محافظة قنا فى الوقت المناسب قبل حلول الظلام حيث يقع المعبد على الشاطئ الغربى من نيل مصر، وشُيد لعبادة الإلهة «حتحور» إلهة الحب والجمال والأسرة عند قدماء المصريين، كان الغروب قد توج المكان بمشهد يتخطى الخيال، معبد مصبوغ بلون ذهبى عكسته الشمس فأعاد القدسية للآلهة حتحور التى يزين رأسها أعمدة واجهته على غير ما عهدناه فى المعابد السابقة، حتحور البقرة المقدسة التى فى صورتها البشرية لدى الرسام الفرعونى تبدو قريبة الشبه جدا من الفلاحة المصرية فى تورية استشعرتها تشير إلى الخير الوفير المتمثل فى كلتيهما. هكذا فى معيّة هذه الآلهة هبط الليل وبدأت النداءات لاستكمال الرحلة.

الهويس 

تهادت العائمة طوال الليل ومع تباشير الصباح وأثناء تواجدنا بقاعة المطعم المخصصة للإفطار، لاحظنا هذا الوجه القريب جدًا من زجاج النافذة، فوجئنا بدنو مركبه الشديد منا، كان ممسكًا بشال صعيدى يقوم بعرضه على الركاب بوجه ضاحك، برغم خطر مروره الملاصق لنا، ثم توقفنا كما قال لنا النادل بسبب انتظار الهويس.

 هنا أحاط بى الفضول فسألته عن الهويس ليجيب: النيل مرتفع فى أسوان عنه فى الأقصر ويجب سحب الماء تدريجيًا من أسفلنا فنهبط لمستوى الماء المنخفض لنعاود الإبحار مرة أخرى، صعدت بسرعة لسطح العائمة التى وقفت فى طابور طويل تنتظر دورها، بينما على الرصيف الطويل يسود الهرج فالباعة يلقون بالشالات الصعيدى إلينا بمهارة لاعبى أولمبياد بدون أى خطأ فى التصويب، مشهدا مذهلً لعمليات البيع والأكثر أعجوبة هو تمكنهم من التقاط النقود ببراعة وخفة، من ركاب يفتقرون للحرفية فى إلقائها لهم إزاء بائعين لا تستعصى عليهم أى لغة، مرحين يتقافزون على طول الرصيف، ولا يتأخرون عن إجابتك عن أى طلب تريده مما شجعنى لسؤال أحدهم: «عندك ألوان تانيه؟» ليكون الرد بدفعات متتالية من الأخضرو الأزرق والبرتقالى و... إلخ، رغم أنها شالات رائعة كانت تحوم حولها نصيحة عابر من أنها أغلى من شبيهتها فى الأقصر، وقد كانت كذلك بالفعل، إلاّ أنها ظلت الأجمل حين نستذكر أصحابها، وهم يلقونها إلينا بقلوب راضية تسعى للرزق تاركة الحمول على خالقها. 

الأقصر 

وصلنا الأقصر الشامخة بمعابدها ووقفنا ونحن نعلم أن عهدنا بالعائمة الساحرة انتهى، لحظتها تمنيت لو كنت شخصية من شخصيات كتاب ماركيز «الحب فى رمن الكوليرا»، حيث ظلت الباخرة فى رحلة لا تنتهى ذهابًا وإيابًا دون توقف، لذا سأبقى أعلق تميمة أمنية فى روحى، بأنى قريبًا سأعود وأعود... هى بلدى ولا نهاية للعودة مثلما كان الأجداد يرسمون مقابرهم بحلم البقاء.