الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

"بلا عودة"

بعد غربة طويلة لسنوات كان يخيم عليها غيم حلم قديم بالعودة إلى أرض الوطن.. وندم على أمر لا دخل لها فيه وهو ولادتها ونشأتها على أرض ليست بأرضها.. مخالطة لعادات وتقاليد ومفاهيم تنفرها شاءت أقدارها أن تحقق حلم الطفولة والشباب وتعود إلى أرض اشتاقت العيش فوق ترابها كانت هناك رائحة تميزها هى وفقط.. رائحة الوطن. تلك الرائحة التى كانت تنعش رئتيها بمجرد خروجها من باب الطائرة استعدادًا لاستقلالها سلم الركاب فى إجازاتها السنوية..



كانت تلك هى المرة الوحيدة التى لم تستشعر فيها حمل هم يوم العودة من حيث أتت..  كم هو بغيض ذلك اليوم بالنسبة لها..  يوم تكسوه الدموع.. وتعلوه الظلمة.. ويغلفه الاختناق..  يوم تخشى وطأته منذ أول يوم فى عطلتها التى تمر كلمح البصر.. مستيقظة فيه على كابوس الفراق.. 

فراق ثرى أغرمت به.. ورائحة أثير أدمنتها عن بعد.. ومشاهد عشقتها بالفطرة.. 

يوم.. كانت تسبقه أيام تتعلق نظراتها فيه ببنايات تودعها.. وشوارع تمعن النظر إليها وإلى إضاءاتها قبل أن تفارقها.. وكأنها تختزل مشاهد فى ذاكرتها.. تسترجعها فى أوقات ضعفها.. كى تهون عليها قسوة البعد والفراق.. 

كانت تشعر بالغبطة لكل من يعيش فوق ثرى هذا الوطن الذى حرمت العيش فيه عنوة.. 

كانت ترى.. أن أبسط حقوقها سلبت منها.. حق تقرير المصير بالعودة إلى أرض الوطن.. حق العيش وسط العائلة والأقارب.. حق تكوين صداقات العمر.. حق الاحتفاظ بالذكريات.. أو حتى وجود ذكريات.. 

كان أقصى ما طمحت إليه فى طفولتها هو أن تقضى شهر رمضان ويتبعه عيد الفطر فى وطنها.. أو حتى عيد الأضحى.. أو شم النسيم.. أيًا كان من تلك المناسبات التى يجتمع فيها الأهل والأقارب.. 

كانت تموت كمدًا وغيظًا عند علمها بزواج إحدى قريباتها الذى يتوجب معه اجتماع فتيات العائلة مع تلك العروس والطبل والزمر والهيصة.. فى حين تبقى هى وحيدة بعيدة لا تستطيع فعل شيء سوى قول كلمة مبروك عبر الهاتف.. 

كثيرًا ما كانت تلعن المسافات التى تفصلها عن ما يحيى روحها.. 

كانت تكره كل مظاهر الرفاهية والتقدم والتمدن التى تفتقر إليها مدينتها.. بل إن أسهم مدينتها كانت تعلو فى قلبها يومًا بعد يوم.. 

كانت تعشق مدينتها الغائبة عنها.. بزحامها وضوضائها وهمجية البعض وطرقها غير المعبدة.. 

بل إن تلك الطرق غير الممهدة تتمتع بسلاسة الوصول إلى منعطفات قلبها.. 

كانت تعلم أن حلمها قادم لا محالة.. ولكن كيف السبل؟! ما هى الوسائل؟! ماذا عن آلية التنفيذ؟! ما هو التوقيت؟!... كانت تجهله..

استيقظت من كل أفكارها وهى مغمضة العينين على كرسى الطائرة وسط صوت أحد طاقم الضيافة داعيًا المسافرين بربط أحزمة المقاعد استعدادًا للهبوط فى مطار القاهرة..  ثم وقفت كعادتها أمام باب الطائرة.. وقبل أن تطأ قدمها أول درجة من درجات السلم..  رفعت بصرها إلى السماء.. مستنشقة عبير تلك الرائحة المميزة التى عشقتها على مدار سنوات عمرها الخمسة والثلاثون.. وطلبت من ربها أن تكون المرة الأخيرة التى تجبر فيها على الوقوف فى هذا المكان البغيض بالنسبة إليها.. الكريه إلى نفسها..  تمنت فى تلك اللحظة إما أن تزهق روحها.. أو يكتب لها العيش هنا بلا عودة.