الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

ظل الريح

«كل كتاب تعيش فيه روح ما، روح من ألفه، وأرواح من قرؤوه، وأرواح من عاشوا بفضله»، «وكل الكتب التى لا يذكرها أحد أو التى يختفى أثرها بفعل الزمن، تعيش هنا فى انتظار اليوم الذى تعود فيه إلى يد قارئ جديد، وروح جديدة». هكذا تكلم الروائى الإسبانى العالمى كارلوس زافون، على لسان بطل  من أبطال أشهر رواياته «ظل الريح».



وزافون  (25 سبتمبر 1964 – 19 يونيو 2020 والذى رحل عن عالمنا الشهر الماضى قد استطاع أن يُبهرنا بعالمه الروائى المدهش، وبالتفاصيل التى يأخذ بعضها ببعض فى سرد روائى ممتع فريد، ورباعيته التى بدأها بروايته «ظل الريح»، تتابعت فى روايات عدة منها «لعبة الملاك»، و«سجين السماء»، و«متاهة الأرواح»، لكن كل رواية مستقلة بعالمها عن الأخرى، وكان قد بدأ حياته الأدبية بثلاث روايات للأطفال لاقت نجاحا لافتا، وهى بعنوان «قصر منتصف الليل»، و«أضواء من سبتمبر»، و» مارينا».

وتظل روايته «ظل الريح» أيقونته الفريدة التى تُرجمت للعديد من اللغات، فهى رواية من داخل رواية، يتشابه أبطال الرواية الحقيقيين دانيال، ووالده، وحبيبته كلارا، ومن بعدها «بيا»، مع أبطال الرواية التى أغرم بها دانيال، والتى كتبها كاتب شكَّل وجدانه وخياله فذهب للبحث عن كتاباته، وتطور الأمر فأخذ يبحث عن الكاتب نفسه فى سلسلة شيقة من الأحداث والشخصيات، ليبدو الكتاب هو البطل الحقيقى لهذه الرواية، وخاصة الكتاب الأول الذى يقرأه المرء فيترك آثاره على حياته بأسرها.، وهى هنا رواية «ظل الريح» التى فتنت دانيال.

لقد كان الروائى الإسبانى «زافون» يعزف الموسيقى، ويؤلف مقطوعات موسيقية أثناء كتابته لهذه الرواية فجاءت هذه الرواية مثل معزوفة متكاملة فيها متعة السرد، وتشابك الأحداث، والكشف عن دواخل الشخصيات على نحو يعكس قدرات سردية فائقة للروائى الإسبانى الراحل.

« الكتب مرايانا تعكس ما بداخلنا»، «و ليست  الكتب سوى مرآة نرى فيها ما نمتلكه فى دواخلنا ، وإن القراءة تُحتم علينا إعمال العقل والقلب معا، وهما عملتان نادرتان فى أيامنا هذه »، هكذا تحدث أبطاله، وهم يدافعون عن رواية «ظل الريح»، ويحاولون إنقاذها من الحرق، إن شخصية من داخل الرواية تخرج من صفحاتها وهى شخصية «لايين كوبرت» أو الشيطان الذى يبحث عن الرواية ليحرقها وكأنه فى خصومة مع المؤلف، ويأخذنا التخيل إلى احتمال أن شخصية ما فى رواية  تخرج منها لتُحاسب مؤلفها، فنتتبعها  وهى تتجول فى مكتبات برشلونة  وهى تسأل عن الكتاب بشغف!،  ونتأمل وجه كوبرت الذى يبدو بلا ملامح، مرتديا قناعا من مطاط، يبدو مخيفا لكل من يراه ، ونحاول أن نعرف سر خصومته مع المؤلف، لكن دانيال بعامه السادس عشرأحد قراء هذه الرواية كان يريد أن يحقق حلمه، ويجد أعمال كاتبه الأثير خوليان كاراكاس صاحب الرواية الوحيدة التى نجت من الحريق رواية « ظل الريح»، بل يريد أن يقابله هو ذاته، وقد شغفته تفاصيل حياته، ومراحلها وقد استمع إليها ممن حوله.

حلم آسر

ودانيال الذى فقد أمه إثر تفشى وباء «الكوليرا» عقب انتهاء الحرب الأهلية الإسبانية، كان يعتقد اعتقادا راسخا بأنه لو وجد الكتاب الذى ضاع منه، كتاب «ظل الريح» لرأى وجه أمه الراحلة، وكأن عالم القراءة هو الذى يحمل الضوء الكاشف لمشاعرنا الداخلية تجاه الآخرين، دانيال يرى وجه أمه فى صفحات الكتاب، ورحلة البحث عن الحقيقة، وفى حماية الكتاب من الحرق حماية لأمه من الاندثار، فهو فى طريقه لحماية الثقافة والخيال إنما يحقق أحد وظائف الكتابة، وهى التعبير عن دواخل الإنسان، وبقدر ما يكون صدق الرواية فإنها تنجح فى التعبير حقا عن حيوات حقيقية، حتى لا يمكن الفصل بين ما هو خيالى، وبين ما ينتمى للواقع، وهذا هو الفن الروائى الذى يصل بنا إلى إعمال العقل والقلب فيما نقرأ من كتابات، إن قلبك ليخفق مع الطفل دانيال الذى أهداه والده الكُتبى صاحب مكتبة الكتب القديمة والنادرة رواية « ظل الريح»، ورفض الفتى بيعها مهما أغراه الثمن الذى عرضه أحد باعة الكتب  لدرجة أن البائع يسأل أباه «ماذا تُطعم ابنك يا سمبيرى؟»، لكن فتى السادسة عشرة يفاجئ القارئ بأنه يمنح الكتاب هدية لكلارا الفتاة الحسناء التى تكبره بعشر سنوات فقد أحبها حبا عميقا ملك عليه أمره، وهى أيضا كانت تحب القراءة، وتقول: «إن القراءة تمنحنى فرصة العيش بكثافة أكبر، وأننى قادرة على الإبصار بفضلها» فقد كانت «كلارا كفيفة، ذات جمال لافت، لكنها لا تلبث أن تعشق أستاذها عازف الموسيقى الذى يلقى فى وجه دانيال بكتاب «ظل الريح»  ويأمره بعدم العودة إلى بيت كلارا الذى يعشقها، فيمضى الفتى بالكتاب فيعترضه فى الطريق الرجل ذو القناع المطاطى «لايين كوبرت»، أحد شخصيات رواية «ظل الريح». 

يبحث دانيال عن ابنة صاحب مقبرة الكتب المنسية «نوريا» التى تعرف الكثير عن صاحب الرواية خوليان فهى حبيبته التى أنقذته بعد تعرضه لحادث حريق، وفى فصل ممتع من الرواية، يستخدم فيه الروائى الإسبانى زافون تقنية المذكرات على نحو فاتن تطلعنا «نوريا» على جوانب خفية من حياة صاحب رواية «ظل الريح» خوليان، فهو عاشق لبنيلوب، وقد تسبب فى مقتلها، بعد حملها منه، فطارده أبوها، ويُشاع فى المدينة أنه والده أيضا من علاقته  الغرامية بأمه صوفى .

تتشابك الرواية، وتتوالد الأحداث، ليمر دانيال بالتفاصيل نفسها فيحب «بيا» ويطارده أبوها  ليثأر منه  بعد أن اجتنت ابنته ثمرة عشق محرمة، وكأن دانيال القارئ، وخوليان  مؤلف رواية «ظل الريح» يتماهيان معا، لدرجة أنهما يلتقيان وجها لوجه، فيعبر خوليان لدانيال عن تقديره ومحبته لأنه يعيده إلى الحياة من خلال قراءة كتبه.

ويكشف زافون الروائى الإسبانى البارع عن شخصية  «لايين كورت» ذى القناع المطاطى، والوجه بلا ملامح فإذ به ليس شخصية من شخصيات رواية خوليان لكنه خوليان نفسه.

لماذا يحرق كتبه ؟

وهنا تتوالى أحداث أخرى يكشف فيها الروائى عن آلام خوليان الروائى، افتقاده لأمه صوفى التى اضطرت للهرب من زوجها بائع القبعات الذى كان يعاملهما بقسوة، وافتتحت مدرسة لتعليم الموسيقى، وتعلقه ببنيلوب التى انتظرته طويلا، ولا يخفى ما فى دلالة اسمها من دلالة فهى أسطورة من أساطير الحب، وانتظار الحبيب حتى يعود، وتتوالى مفاجآت زافون السردية، مع أحداث كاتب رواية ظل الريح الذى يكشف خوليان مؤلف رواية «ظل الريح» عن نفسه لدانيال فهو «لايين كورت» الذى يسعى فى المدينة لجمع كتبه وحرقها !، وليس المحقق فيرمين القاسى هو الذى يفعل ذلك كما اعتقد الكثيرون، وتقدم الرواية عدة تفسيرات لمأساة خوليان، فتقول نوريا التى أحبته بعمق «كان يعيش لأجل نفسه، وكتبه، ويحيا فى قصص رواياته مثل سجين فى زنزانة فاخرة».

لكن خوليان نفسه يعترف لدانيال الذى احترم كتاباته، وبحث عنها فيقول له: «أنه أحرق النسخ التى كانت مسلوبة ممن لا يعير اهتماما بالغا لأعماله، ولا يسعى للإفادة منها، فهى مسلوبة من جامعى كتب الدجالين، ومن فئران المكاتب العامة»  لقد احترم خوليان اهتمام دانيال لأنه يريد إحياءه من ركام الماضى، فقد كان يرى «أننا موجودون طالما يذكرنا الآخرون».

لقد دافع دانيال، ونوريا، وأبوها حارس مقبرة الكتب المنسية عن الكتاب، مهما تكبدوا من عذابات ومعاناة، ولولاهم ما بقيت نسخة وحيدة من رواية  «ظل الريح» بقلم خوليان، ولا بقيت مخطوطاته من كتبه التى تم حرقها، لقد بعث القارئ دانيال الوجود الحقيقى لخوليان متمثلا فى الحفاظ على القيمة الحقيقية لكتاباته، فأنقذه من محنته النفسية، فمضى لا يريد تدمير كتبه، وآثار وجوده ، فيقول لقرائه ومحبيه « نحن نستمر فى الحياة، فى ذاكرة من يحبنا».

لقد أعطى زافون لشخصياته الروائية سمات خاصة جعلتها تتجسد فى خيال القارىء، بل إن هذه الرواية تجعل بطلها دانيال يعتقد اعتقادا حقيقيا أنه سوف يتذكر وجه أمه إذا نجح فى انتشال خوليان من النسيان».

وهاهو دانيال يصطحب ابنه إلى مقبرة الكتب المنسية ليختار كتابه الأول الذى سيكمل دائرة الحياة والإبداع حيث تقول الرواية «أن الكتاب الأول صدى الكلمات التى نظن بأننا نسيناها يرافقنا طول الحياة ».

تلك هى أيقونة الكاتب الإسبانى زافون التى كتب بعدها  بقية أيقونات رباعيته الروائية اللافتة التى شغلت الكُتاب والنقاد، وقد ترجمها إلى العربية معاوية عبدالمجيد، وقدم لها أحمد مجدى همام فصدرت لأول مرة بالعربية عام 2016 عن دار نشر مسكيليانى فى تونس.

وحيث يقول المترجم معاوية عبدالمجيد إنه اعتمد على النص الإسبانى بصفة أساسية، كما استند على الترجمة الإيطالية، كما أفاد من الترجمة الفرنسية والإنجليزية ليقدم لنا هذا النص السردى المهم.

وكارلوس زافون الكاتب الإسبانى الراحل كان قد حصل على عدة جوائز  دولية عن روايته « ظل الريح»، والتى تُرجمت إلى العديد من اللغات.