السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

الموجة الثالثة من الهجوم

الجنرال جورج كاتليت مارشال أحد صناع مجد الولايات المتحدة الأمريكية فمع اندلاع الحرب العالمية الثانية اختاره الرئيس الأمريكى فرانكلين روزفلت رئيسا لأركان حرب الجيش الأمريكى متخطيا 32 ضابطا من الرتب الأقدم. نجح الجنرال مارشال فى حشد 8 ملايين جندى أمريكى وإقامة نظام عسكرى صناعى لإدارة آلة الحرب الأمريكية حتى تحقق النصر للحلفاء على دول المحور... لم يكتف الجنرال بما حققه لأمريكا.



 

ألقى جورج مارشال محاضرة فى جامعة هارفارد بعد الحرب عندما أصبح وزيرا للخارجية مقترحا أضخم مشروع مساعدات وتنمية لأوروبا تقدمه أمريكا حتى لا تسقط القارة العجوز فى أيدى الاتحاد السوفيتى وتلتهما الشيوعية سمى المشروع باسمه ليصبح الأضخم فى التاريخ وحاز على جائزة نوبل بسبب مشروعه.

دائما ماكانت رؤية الجنرال جورج مارشال مستقبلية ولمصلحة وطنه أولا، اعترض بعض السياسيين الأمريكيين على حجم المساعدات التى ستقدم لأوروبا واعتبروها مهولة ومبالغ فيها تكلم مارشال عن المستقبل وأن صعود الولايات المتحدة كقوة عظمى يبدأ من أوروبا قوية متحالفة مع الولايات المتحدة ضد الإمبراطورية السوفيتية.

لم ينس مارشال مستقبل وطنه فى أى لحظة فمنذ توليه رئاسة أركان الجيش الأمريكى حمل معه أچندة ملاحظات كان يدون فيها أسماء أفضل الرجال المتميزين الذين تعامل معهم أثناء خدمته مهما صغرت رتبتهم العسكرية أو كانوا من المدنيين، بعد نهاية خدمته العسكرية سلم هذه الأسماء للبيت الأبيض لتتشكل نخبة هى من قادة الولايات المتحدة إلى الجلوس على عرش العالم بعد الحرب العالمية الثانية بالتأكيد عندما يقول الجنرال جورج مارشال رأى فى سياسة الولايات المتحدة بعد هذا التاريخ فإن دافع هذا الرأى حماية مستقبل أمته ومصلحة دولته.

 يذكر التاريخ السياسى الأمريكى لقاء عاصف دار بين الجنرال جوج مارشال وزير الخارجية وقتها والرئيس الأمريكى هارى ترومان حول إسرائيل ومازال هذا اللقاء العاصف محل بحث إلى لحظتنا تلك من المؤرخين والسياسيين الأمريكيين 

رفض جورج مارشال قطعيا أن توافق الولايات المتحدة على الاعتراف بإسرائيل كدولة، بنى الجنرال رفضه بأن وجود إسرائيل سيورط الولايات المتحدة فى الدفاع عنها وسيحملها تبعات وعداءات لا تتوافق مع مصالحها فى الشرق الأوسط والعالم واستعان مارشال بدراسات أعدتها هيئة الأركان الأمريكية لتأكيد وجهة نظره وانتظر الجنرال أن يقول هارى ترومان كلمته.

لم يعلم جورج مارشال أن هناك زائرا آخر قدم إلى البيت الأبيض هو أدى جاكوبسون الأمريكى اليهودى والصديق الصدوق لهارى ترومان بل كانا فى شبابهما شركاء فى دكان صغير لبيع الملابس لم يأخذ ترومان بوجهة نظر وزيره جورج مارشال وهى وجهة النظر التى تعلى من المصلحة الأمريكية ونفذ رغبات صديقه جاكوبسون معترفا بإسرائيل بعد 11 دقيقة من إعلان تأسيسها واعتبر المجتمع الأمريكى اليهودى أن جاكوبسون له الفضل الأول فى وجود إسرائيل.

منذ لحظة الاعتراف تلك تحملت الولايات المتحدة مسئولية حماية إسرائيل وفرض وجودها فى المنطقة العربية بالقوة دائما وبالسياسة أحيانا ولكن بقت وجهة نظر الجنرال جورج مارشال فى مكان ما داخل العقل السياسى الأمريكى محاصرة لا يجرأ أحد على طرحها علانية وألا طاردته التهمة سابقة التجهيز وهى معادة السامية. انتقل الصراع من نقاشات البيت الأبيض العاصفة إلى أرض العرب لتكن مصر هى رأس الحربة فى التصدى لهذا المشروع الأمريكى /إسرائيلى ويدرك مخططو ومننفذو المشروع أن مصر المتصدية للاستعمار فى وجوده المباشر منذ القرن التاسع عشر ستواجه أيضا الاستعمار الجديد حاربت مصر على الجبهتين،جبهة الاستعمار المباشر حتى أنهت وجود الإمبراطورية الإنجليزية بتأميم قناة السويس ثم حولت انكسارات العامين 48 و67 إلى انتصار كامل فى حرب أكتوبر المجيدة 1973 بمخزون حضارى مصرى حتى وصل الصراع بين مصر والمشروع الأمريكى الإسرائيلى إلى محطة «السلام» فى العام 1979. لم تكن محطة «السلام» التى وصل إليها قطار الصراع تحمل لافتة نهاية الرحلة بل علق على حائط رصيفها لافتة بعنوان «تحول شكل الصراع».

نعود عند فعل التحول هذا إلى الجزء الأول من المقال فى الأسبوع الماضى ونتوقف عند نقطتين فيه أولهما أن النظام الإقليمى المتشابك مع النظام الدولى الحالى تأسس الجزء الرئيس منه نتيجة ثلاث قرارات مصرية ومصيرية، تأميم قناة السويس 56، حرب أكتوبر المجيدة 73، معاهدة السلام 79. 

النقطة الثانية أن الحزام الإقليمى المؤسس على ركيزة المفهوم الدينى (العربية السعودية / إسرائيل / إيران / تركيا ) وبعده الحزام الحدودى  (إمارة حماس الإخوانية شرقا / الكيان الإخوانى فى طرابلس غربا / سابقا نظام البشير جنوبا) كان هدفهما حصار المشروع الحضارى المصرى. عقب تحول شكل الصراع نتيجة للمعاهدة وتوارى المحرك الرئيسى وهو الولايات المتحدة وادعاء إسرائيل التزامها بلافتة النهاية فى محطة «السلام» انطلقت هذه الأحزمة من الحصار إلى صناعة الموجة الثالثة من الهجوم بعد فشل الموجة الأولى متمثلة فى الاستعمار المباشر وانهيار الثانية المسماة بأحداث الربيع العربى أمام ثورة يونيو ودحر أداة صناعة الأحداث وهى الفاشية الإخوانية.

تحيط بالموجة الثالثة من الهجوم محددات لا يمكن إغفالها أولها أنها اندلعت فى ظل صراع إمبراطورى أمريكى / صينى يفرض مركزيته على تفاصيل الصدامات الإقليمية والدولية مهما تصورنا بعدها الجغرافى والسياسى عنه

لم يعد هناك فصل بين ما هو إقليمى وحدودى فى هذه الأحزمة المحيطة بمصر،الوجود التركى فى سوريا والعراق وليبيا والتغلغل الإسرائيلى فى الجنوب حتى منابع النيل فى إثيوبيا.

طرأت على الحزامين الإقليمى والحدودى تغيرات مهمة نتيجة لثورة يونيو فالمملكة العربية السعودية بإجراءتها الانفتاحية الحضارية تتحرر من النطاق الوهابى الضيق كما قامت الثورة السودانية بالتخلص من نظام البشير الإخوانى فى الجنوب.

من ناحية أخرى أخرج الصراع الإمبراطورى إيران من الاستخدام الأمريكى فكان نظام الملالى أداة مهمة فى المشروع الأمريكى /الإسرائيلى ويتم تفعيلها بحسابات تبدو فى ظاهرها العداء ولكنها حسابات عميقة المصلحة بين الأطراف الثلاث.

فعلت إيران منذ فترة وجيزة المعاهدة الاستراتيجية التى وقعتها مع الصين فى العام 2016 وقد مر هذا التفعيل عبر رفض من تيار البازار الموالى للغرب انتهى بمقتل رفسنجانى على يد الحرس الثورى وحاولت الولايات المتحدة تعطيله باغتيال قاسم سليمانى قائد الحرس المؤيد لتحالف صينى إيرانى كامل لكن حسم الملالى أمرهم بالرهان على الصين ليخرجوا نهائيا من عباءة المصالح الأمريكية.

تسمح المعاهدة بين الصين وإيران بتواجد قوات عسكرية صينية فى  إيران تبدأ بخمسة آلاف جندى وضابط لحماية الاستثمارات الصينية  التى ستضخها والمقدرة ب 400 مليار دولارمقابل مجمل البترول والغاز الإيرانى والأهم سيطرة صينية كاملة فى ميناء «جاسك» المطل على بحر‘عمان لتتحكم الصين فى مدخل الخليج وتكسر الحصار الأمريكى المفروض على أى قوة غيرها من الدخول إلى الخليج منذ الحرب العالمية الثانية.

ينضم هذا الميناء إلى «عقد اللؤلؤ» أو سلسة الموانئ التى تعمل الصين فى السيطرة عليها من بحر الصين الجنوبى إلى البحر الأحمر لتتحرر خطوط تجارتها من السيطرة الأمريكية وتتحول إلى قوة عظمى حقيقية، ولذلك فقد بدأت الولايات المتحدة وإسرائيل شن حرب على نظام الملالى فى سلسلة التفجيرات المتوالية داخل المدن الإيرنية وبالتأكيد ليس سبب هذه الحرب المواقف الثورية العنترية لنظام الملالى لكن سببها نهاية التحالف بين الثلاثى وانضمام إيران للإمبراطوية الصينية الصاعدة.

تبقى من الحزام الإقليمى تركيا وإسرائيل، بالنسبة للنظام الفاشى الإخوانى فى تركيا فقد أثبت فشله أمام المخرج الأمريكى فى موجة الهجوم الثانية وقت أحداث ما سمى بالربيع العربى وفرالى عاصمته بقايا الفاشيست عقب ثورة يونيو وبقت له ذيول فى دول المغرب العربى ستقطع قريبا.

 أعاد المخرج الأمريكى استخدام الفاشى الفاشل التركى من جديد بسبب مركزية الصراع الإمبراطورى الأمريكى / الصينى فكعب أخيل الذى تركز عليه الاستراتيجية الأمريكية فى مهاجمة الصين يكمن فى منطقة «شينجيانج» البوابة البرية للمشروع الإمبراطورى الصينى التى يبدأ من عندها أكبر سلسلة خطوط برية وسكك حديدية عبر باكستان إلى ميناء جوادر الباكستانى على الخليج العربى ليصبح للصين ممر تجارى خاص بها متحررة من السيطرة الأمريكية على الممرات البحرية الدولية وهو ما يتم تنفيذه فى إيران أيضا عبر ميناء «جاسك». 

يوجد فى إقليم «شينجيانج» أقلية الأيجور المسلمة ذات الأصول التركية وعرف الإقليم سابقا بما يسمى تركستان الشرقية وأصدر الكونجرس الأمريكى منذ شهرين قانونا بفرض عقوبات على الصين بزعم اضطهاد الأيجور ويتضمن القانون أغرب بند فيطالب المخابرات الأمريكية بكتابة تقارير دورية عن الإقليم كأن الصين دولة بلا سيادة.

تسعى الولايات المتحدة إلى شن حرب انفصالية باسم الدين وأفغنة الإقليم كما حدث سابقا مع الاتحاد السوفيتى ثم فصله عن الصين بمساعدة الفاشى التركى الذى تشرف مخابراته فى سوريا على تدريب الحزب الانفصالى التركستانى الإسلامى المكون من الإيجور وتتولى الجماعة الفاشية الإخوانية المظلومية الدعائية المعتادة بل تجاوزت الجانب الدعائى بوصول عدد من عناصرها إلى الإقليم انتظارا للحظة إشعال الفتيل لذلك تراجعت إدارة ترامب عن تصنيف الإخوان كجماعة إرهابية بضغط من المجتمع المخابراتى الأمريكى  أمام هذا الدور الذى يلعبه الفاشى التركى وجماعته الإرهابية فى الصراع الإمبراطورى أطلقت الولايات المتحدة يده فى الوطن العربى (سوريا، العراق، ليبيا ) لتحقيق أطماعه المريضة.

لكن هذا الإطلاق الذى تظنه الولايات المتحدة دون تبعات ما كان يتم إلا فى ظل نظام إقليمى مستقر ومتشابك مع الدولى صنعته مصر بقراراتها المصرية الخالصة والمصيرية الثلاث حتى وصلنا إلى محطة «السلام».

وعند هذه المحطة نستعيد العنصر الباقى من الحزام الإقليمى وهو إسرائيل ونصيحة الجنرال جورج مارشال والصراع الإمبراطورى.. لتحاسب مصر الجميع وتعيد ترتيب الأوراق.