الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

حدث ذات مرّة فى الثمانينيات

 أتذكر هذا اليومَ تماما وكأنه حدث بالأمس. رغم مرور اثنتين وثلاثين سنة عليه بالتمام والكمال. أرانى أتمخطر فى شارع طويل عريض وقد ارتديت أجدع بدلة أسموكن سوداء مزينة بكرافات شيك لامعة معلقة فى قميص أبيض ناصع ياقاته تذبح من يمر أمامها من فرط حدتها. لمعان أساور القميص تلمع وكأنها فصوص لولى تطل من ثغر فتاة حسناء تبتسم. أمشى متبخترا مرددا فى سرى يا أرض انشقى وما عليك أدّى. تصل لمسامعى هتافات من الشبابيك والشرفات. وفى اللحظة نفسها التى أقرر فيها أن أنظر لأعلى ملوحا لهم. تباغتنى ست بيت مصرية أصيلة بحدف جردل كامل من ماء الغسيل. على رأسى وعلى البدلة والكرافات.. لأفوق بعدها ويصغر حجمى جدّا وأعتذر وأحلف بأننى لن أكرّر هذا الخطأ مرّة أخرى.



سبتمبر 1986. أجلس مترقبًا على طرف الكرسى أمام مكتب طويل عريض يجلس وراءه الأستاذ محمد بغدادى- المشرف الفنى لمجلة «روزاليوسف»- أحاول أن أستشفَّ من نظراته رأيَه فى رسوماتى الكاريكاتيرية الأولى التى بين يديه.. يتصفح واحدة ثم الأخرى. يتأمّل الثالثة. ثم التى تليها. ثم... ثم.. و.. ويصمت. تتسارع دقاتُ قلبى. وتمُرُّ لحظات الصمت كأنها وابور بضاعة يمر متهاديًا عربة وراء الأخرى. يضع الرسومات جميعها على جنب ويوجّه نظره لعينى مباشرة. بُص يا عمرو. أنا قصادى حاجتين دلوقتى. أول حاجة إنى أتصل بوالدك بالتليفون الأستاذ جمال سليم - والدى جمال سليم كاتب سياسى مرموق يعمل فى مجلة «روزاليوسف» - وأقوله ابنك يا أستاذ جمال عبقرى وما حصلش. وأفتح الدرج وأحط رسوماتك فيه وما حدش يشوفها ونبقى خلصنا. لكن لو عايز تبقى رسام كاريكاتير بحق وحقيقى وكتفك يبقى بكتف الرسامين الكبار اللى بيرسموا ف المجلة لازم تطلع فوق فى الأرشيف وتتفرج على شغل الناس الكبار العظام اللى موجود فوق. مهم جدّا قبل ما ترسم كاريكاتير تشوف الناس اللى سبقوك كانوا بيعملوا إيه.. بيفكروا وبيرسموا إزّاى. كانت صفحات مجلة «روزاليوسف» فى ذلك الوقت تزينها رسومات محيى اللباد وجمعة فرحات ومحسن جابر ومحمد حاكم وعبدالحليم وتاد وكمال، بالإضافة لعدد من الرسامين الشبان أتذكر منهم بخالص الود إبراهيم مرزوق وحسنى عباس.

وسمعت الكلام.... فى تمام الثامنة من صباح اليوم التالى كنت فى أرشيف مجلة «صباح الخير» فى الدور السادس وأمامى العدد الأول من مجلة «صباح الخير». وأصبح هذا هو الجدول اليومى. من الثامنة صباحًا موجود فى الأرشيف حتى الثانية ظهرًا. ثم أنزل بعدها للدور الخامس؛ حيث مجلة «روزاليوسف» لأجلس مرّة أخرى أمام الاستاذ محمد بغدادى. لعله يعطف على الرسام الجديد المبتدئ- العبد لله- ويكلفه برسم كاريكاتير ولو حتى على عامود. لم أترك عددًا واحدًا لـــم أشاهده من مجلـة «صبــاح الخير». لـــم أتــرك  «تنتوفة» واحدة من العدد الأول حتى بداية السبعينيات. أعرف أن «روزاليوسف» مجلة عريقة ومَدرسة الكاريكاتير الأولى فى العالم العربى، ولكن للأمانة.. ما رأيته وقتها فى الأرشيف كان شيئًا يفوق الخيال. يخبل. صدقًا لا أريد أن أقع فى فخ المقارنة. ولكن مَن هذا المجنون الذى يمكن أن يقارن بين فترة الستينيات بزَخمها الأدبى والفكرى والثقافى والفنى.. وثمانينيات استقرار الموات والذى استمر معنا طيلة ثلاثين عامًا. كانت رسومات الكاريكاتير فى الأرشيف تخرج من البرواز وهى تتراقص وتضحك وتتحرك فى انسيابية ثم تطير كالفراشة وتلدغ كالنحلة أجدع رقيب على قفاه.

 وعلى رأى محمد منير : « قالك إيه الغرام قالك تنسى الكلام وتسهر ما تنام. ف الليل فكرك يطوف والنوم خطوف خطوف». فى تلك الأيام أصبح نومى «خطوف خطوف».كنت أسهَر أعدّ نجوم السماء نجمة نجمة.. هذه النجمة اسمها صلاح جاهين وتلك حجازى واللى هناك دى بهجت عثمان..وبهجورى ورجائى واللباد وصلاح الليثى وإيهاب شاكر وناجى كامل. كنت أملأ عينَىَّ العطشتين برسوماتهم وأدقق فى تفاصيلها لدرجة الحفظ.. حتى يشقشق فجرُ النهار لأرتدى ملابس وأنط فى العربية وأذهب للأرشيف فورًا. وقتها أدركت أن رسام الكاريكاتير مهنة شاقة ومسئولية كبيرة.. مسئولية إمضاء الرسام على كل رسمة قام برسمها.. وأن مهنتنا العظيمة هذه لن تنتهى أثرها بنهاية السنة المالية ويتم إعدام كل الأوراق.. سيجىء بعد عشرات السنين من سيطالع رسوماتنا. وإمّا أن يلعننا أو يقرأ لنا الفاتحة ويترحم على أرواحنا ونفوسنا النقية.. كم كنت أقرأ الفاتحة وأترحم لهؤلاء الأساتذة العظام مئات المرّات كل يوم.

وفجأة. المكنة طلّعت قماش. كنا قد وصلنا لعدد نهاية السنة عام 1986 وطلب أستاذ بغدادى من الرسامين عمل أفكار عن قدوم العام الجديد وطقوسه المبهجة الطريفة. كان يوجد وقتها إعلان لطارق نور مكسّر الدنيا. تصاحبه أغنية مرتجلة طريفة تقول: «محمود. إيه ده يا محمود؟». لكن عندما يقوم رسام « مناخوليا» برسم كادر أسود تمامًا ويكتب فوقه ليلة رأس السنة ثم يخرج من الكادر بالون مكتوب فيه « محمود إيه ده يا محمود؟» يكون إعلان السجاد قد خرج عن سياقه وأصبح كاريكاتيرًا للبالغين فقط.

بعدها.. كلفت برسم كاريكاتيرات مصاحبة لموضوع عن سرقة الآثار.. وعند تسليم الرسومات كان أول اعتراف من أستاذ بغدادى بميلاد موهبتى كرسّام للكاريكاتير. ضحك وقهقه كثيرًا يومها على ما رسمته قائلا «ناس كتير كانوا بيسألونى ليه مصر ما بقاش يطلع منها رسامين كاريكاتير.. دلوقتى بس أقدر أقولهم إن فيها رسام جديد اسمه عمرو سليم» .. وبدأ القطار فى تَحرُّكه.. واستمرت المكنة تطلّع قماش. إلى أن جاءت اللحظة الفارقة.

كانت مصر وقتها تعيش ما يشبه بداية استقرار الموات. وكنت ألاحظ ذلك تمامًا فى مساحات الحرية المغلقة على الكاريكاتير؛ تحديدًا السياسى. كان من الصعب نشر كاريكاتير خارج عن السياق، وبالذات لو كنت تعمل فى مطبوعة حكومية. أيّا كان هذا السياق- لاحظ أننا نتحدث عن مرحلة ما قبل الجرائد الخاصة- ولكن ما كنت أراه من تحجيم لدور الكاريكاتير فى ذلك الوقت وما كنت أراه فى أرشيف مجلة «صباح الخير» كان أشبه بدورى الحكشة المحلى عندنا والدوريات الأوروبية المدهشة التى تؤكد لنا دائمًا أن لعبة كرة القدم لم تدخل مصر حتى الآن.

فى يناير 1987 تم تعيينى «رسام كاريكاتير» فى «روزاليوسف»، وبمرور الوقت اعتدت على المكان وأصبحت أذهب مبكرًا للمجلة. رسام تحت الطلب. أنتظر ما يأتى من موضوعات وأقرأها جيدًا ثم أقوم بعمل كاريكاتير مصاحب لها. حتى حدث ما حدث. فى يوم من أيام شهر أغسطس عام 1987. وأتذكر جيدًا أنه كان يوم جُمعة. انتظرتُ طويلًا وقبل أن أهِمَّ بالمغادرة جاء موضوع على وجه السرعة مطلوب رسم كاريكاتيرات مصاحبة له. كان واضحًا أنه موضوع الغلاف. ولأننى كنت الرسام الوحيد الموجود فى هذا اليوم فقد تم تكليفى بعمل الكاريكاتيرات المصاحبة للموضوع. كان الموضوع عن إضراب الفنانين ضد تعديلات القانون 103 للنقابات الفنية. كانت الدولة وقتها قد قررت إجراء تعديلات على قانون النقابات الفنية. كان من الواضح أن هذه التعديلات قد تم تفصيلها على مقاس أشخاص بعينهم لمساعدتهم على الاستمرار فى مواقعهم مدى الحياة. دون الرجوع للجمعية العمومية لأى من النقابات الثلاث؛ السينمائية والموسيقية والتمثيلية. كان رد فعل الفنانين هو التصعيد إلى مستوى الاعتصام والإضراب عن الطعام- استمرت الفنانة تحية كاريوكا فى إضرابها عن الطعام لمدة أربعة أيام متواصلة. شارك فى الاحتجاج العديد من مشاهير الفن فى مصر، ولعل أبرزهم: تحية كاريوكا وسعاد حسنى ونور الشريف ويوسف شاهين وتوفيق صالح وحسين فهمى وعلى بدرخان وعاطف الطيب وأحمد زكى وعمار الشريعى وعادل إمام ويسرا. كانت معركة مشرّفة وانتصارًا كبيرًا للفنانين، كما حظى هذا الاحتجاج بدعم الرأى العام. فيما عدا الرسام المبتدئ الذى لم يكن يدرك وقتها ما يحدث فى الشارع المصرى. كان الموضوع يتبنّى وجهة نظر الحكومة بالطبع بما أن النشر يتم فى صحيفة قومية تتبع الحكومة... المهم، قرأتُ الموضوع بدقة وتفاعلتُ مع وجهة النظر الأحادية المكتوبة. وأديت مهمتى بنجاح. وبالفعل صدق توقّعى وكان هذا هو موضوع الغلاف والموضوع الرئيسى فى المجلة. نشر الموضوع مصاحبًا لها خَمس مساحات كاريكاتير عريضة عليها جميعها توقيع عمرو سليم. أتذكر وقائع هذا اليوم تمامًا وكأنها حدثت بالأمس. رُغم مرور اثنتين وثلاثين سنة عليها بالتمام والكمال. أرانى أتمخطر فى شارع طويل عريض وقد ارتديتُ أجدع بدلة أسموكن سوداء مزيّنة بكرافات شيك لامعة مُعلقة فى قميص أبيض ناصع ياقاته تذبح مَن يمر أمامها من فرط حدتها. لمعان أساور القميص تلمع وكأنها فصوص لولى تطل من ثغر فتاة حسناء تبتسم. أمشى متبخترًا مرددًا فى سرّى يا أرض انشقى وما عليك أدّى. تصل لمسامعى هتافات من الشبابيك والشرفات. وفى اللحظة نفسها التى أقرّر فيها أن أنظر لأعلى ملوحًا لهم. تباغتنى ست بيت مصرية أصيلة بحدف جردل كامل من ماء الغسيل. على رأسى وعلى البدلة والكرافات.. لأفوق بعدها ويصغر حجمى جدّا وأعتذر وأحلف بأننى لن أكرّر هذا الخطأ مرّة أخرى. 

بالظبط. هذا ما حدث لى تمامًا. صدر عدد «روزاليوسف» يوم السبت وفيه الكاريكاتيرات- الفضيحة إياها- لا أتذكر الآن ما الذى جعلنى يومها أقرّر الصعود لـ«صباح الخير» ومعى العدد؟ ربما لأدخل عليهم وأنا نافش ريشى؟ ربما ليشاهد رسوماتى صديقى العزيز رسام الكاريكاتير عز الدين..؟ لا أتذكر... المهم بمجرد دخولى مجلة «صباح الخير» وجدتُ أمامى الفنان الكبير محيى اللباد. الذى نظر لى فى صمت. يا الله. ألم يشاهد رسوماتى الملعلعة الفظيعة التى فى المجلة. لماذا إذن لم يأخذنى بالحُضن.. إن فريق كرة القدم يحتفى بمن يحرز ثلاثة أهداف ويطلقون عليه «هاتريك».أى يرفعون له القبعة. طيب. لقد احرزت خمسة هاتريك.. خمسة أهداف بحالها.. لماذا لم تُرفع لى القبعة!!. أين الحضن يا رجل؟!!.. طيب.. قلت أقرَّب أنا وأبادره بالتحية.. ص.. صباح الخير يا أستاذ محيى.

لم يرد لوهلة قبل أن يباغتنى بسؤال تحت الحزام لم أتوقعه وأنا فى هذا الموكب الرئاسى. عملت كده ليه يا عمرو؟! عملت إيه يا أستاذ محيى؟!

يا راجل.. معقولة فيه فنان يبقى ضد إضراب الفنانين؟؟!!

بُهتُّ. وبدأت تظهرأمامى الحقيقة الكاملة..

أ..أنا قريت إللى مكتوب كويس وعملت كاريكاتير عليه..

.. وصدقتهم؟؟! طب وأنت؟! رأيك فين؟؟!

طب تعرف إيه يا عمرو عن الموضوع ده؟؟

وبدأ يشرح لى الموضوع.. وبدأتُ وأنا أتراجع على الحبال أبحث عن المبررات.. أمام ملاكم لا يرحم.

أ.. أصل الموضوع جه ف آخر لحظة و..

آسف... ما لكش عُذر.

أ..أصلهم كانوا طالبين خمسة كاريكاتير.. وأنا كان لازم…

.. يلاحقنى بلكمة أخرى: أبدًا يا أستاذ.. دى كلها حجج.

وفى كل محاولة تبرير لى تتساقط منّى ريشة تلو الأخرى.. وأشعرأن حجمى يصغر تدريجيّا ليصبح أصغر من علبة الأقلام الصغيرة التى كانت على المكتب الذى يجلس عليه أستاذ محيى اللباد.

لا أعرف وقتها لماذا تذكرتُ المشهد الشهير من فيلم سر طاقية الإخفاء «العلبة دى فيها إيه؟».. ولكن الآن العلبة دى ما فيهاش فيل.. فيها رسام كاريكاتير..

ط.. طب قوللى كنت أعمل إيه يا أستاذ محيى؟!!

أيوه.. ده السؤال المهم.. ممكن ترفض ترسم الموضوع.

ما ينفعش.. أنا كنت الرسام الوحيد فى الوقت ده وما فيش رسام إلا أنا و…

بلطج يا سيدى.. استعبط.. ارسم مثلا ديك عامل إضراب إنه يبيض.. حاجة كده.. اتصرف بس ما تغلطش الغلطة دى تانى أبدًا.

أذكر وقتها كيف احتوت أبوّته خجلى وكيف احترم وعدى بأننى لن أكرّر هذا الخطأ مرّة أخرى.. ولم أكرّر هذا الخطأ أبدًا.