الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

حكومة المحافظين الحالية متهمة بالعنصرية

بريطانيا تزيل آثار تاريخها مع العبودية

ريشة: أحمد جعيصة
ريشة: أحمد جعيصة

حركة غير مسبوقة تشهدها بريطانيا هذه الأيام..



يمكن تلخيصها فى عبارة واحدة هي:  «محاولة التخلص من تأثير الجانب المظلم من تاريخها، على الحاضر والمستقبل».. فعمليات تحطيم وإزالة تماثيل شخصيات تاريخية ترمز لزمن استعباد السود والاتجار فيهم، تجرى خلال مظاهرات ومسيرات مساندة لحركة «حياة السود مهمة» التى ازداد نشاطها فى أمريكا وأنحاء كثيرة من العالم بعد واقعة قتل شرطى أمريكى للشاب الأسود جورج فلويد.. وفى الوقت نفسه قررت جامعة أوكسفورد إزالة تمثال الاستعمارى تاجر العبيد الشهير «سيسيل رودس» من واجهة مبنى إحدى كلياتها.. وأزالت جامعة وسط لندن تمثالا لـ«جون كاس» أحد أكبر تجار العبيد فى تاريخ بريطانيا من حرمها الجامعى. 

وفى الأسبوع نفسه قرر بنك إنجلترا وهو البنك المركزى البريطانى، إزالة اللوحات التذكارية لبعض حكامه السابقين الذين ارتبطت أسماؤهم بتجارة العبيد وترويج الفكر العنصرى.. مع أن البنك نفسه لم يتورط خلال تاريخه فى هذه الأمور.

ليس هذا فقط، بل إن أكبر وأعرق شركة تأمين عالمية بريطانية «لويدز» أصدرت بيانا أعلنت فيه اعتذارها عن تاريخها المظلم فى تسهيل ودعم تجارة العبيد واستقدامهم من أفريقيا وبلدان منطقة الكاريبى، فى القرن الثامن عشر..  وتبعتها فى ذلك شركات أخرى، حيث قررت الشركة المنتجة للأرز الشهير باسم «أونكل بن» تغيير اسمه تماشيا مع حركة التخلص من آثار الماضى الاستعمارى المرتبط  بالعنصرية والعبودية، معلنة أنها تريد الوقوف مع الحركة المطالبة بوضع حد للعنصرية. 

ومع أن لرئيس الوزراء البريطانى الحالى «بوريس جونسون» مواقف عنصرية معروفة، إلا أنه قرر فجأة الأسبوع الماضى تشكيل جهاز حكومى جديد مهمته مكافحة كافة أشكال عدم المساواة، مع العلم بأن هناك جهازا حكوميا قائم بمهمة مكافحة العنصرية، كما أن هناك وزيرة مسئولة عن المساواة.. أى أن رئيس الوزراء الذى يحكم البلاد، أراد فقط إظهار استجابته لموجة المظاهرات والمسيرات التى تشهدها بريطانيا مطالبة بمكافحة العنصرية، حتى أنه كتب مقالا يوم الاثنين فى جريدة «التلغراف» قال فيها «يتعين علينا القيام بالكثير لمعالجة العنصرية فى المملكة المتحدة» مؤكدا مساواة الجميع دون تمييز.. بينما كان فى الأسبوع السابق يتهم المظاهرات المطالبة بذلك بأنها تتشكل من المخربين!

وفى الجريدة نفسها «التلغراف» نشر البروفيسور «ماثيوسميث» رئيس مركز دراسة تاريخ العبودية البريطانيى جامعة وسط لندن، مقالا أشار فيه إلى أن حكومة المحافظين مارست أعمالا تتسم بالعنصرية خلال السنوات الأخيرة وضرب على ذلك مثالا بالإهمال المتعمد فى مواجهة الحريق الرهيب الذى التهم برجا سكنيا كبيرا فى قلب لندن يسكنه أبناء الأقليات العرقية الفقيرة وحوله إلى كتلة خرسانية متفحمة تقف شاهدها على عنصرية الحكومة. جاء ذلك بعد يومين فقط من نشر مقال رئيس الحكومة.

«رودس يجب أن يسقط»

مع أن المطالبة بإزالة تمثال «سيسيل رودس» من جامعة أوكسفورد بدأت بمظاهرات طلاب الجامعة وتواصلت منذ خمس سنوات وحتى أيام قليلة مضت، ورفضها مجلس الكلية التى يوجد التمثال فى واجهتها، مرارا، إلا أن المجلس تراجع تحت ضغط مظاهرات الطلبة وحركة «حياة السود مهمة» التى بدأت فى أمريكا وانتقلت إلى العالم كله ومنه بريطانيا، حيث قرر إزالة التمثال الذى يعلو مبنى كلية «أورييل».. ووافق فى اجتماع مساء الأربعاء الماضى، على الرغم من توصية وزير التعليم العالى وتحذيره من «معاقبة تاريخنا».. وجاء ذلك فى أعقاب سلسلة من عمليات تحطيم تماثيل لكبار رموز العبودية والعنصرية فى التاريخ البريطانى.. وكان مجلس الكلية نفسها قد اتخذ قرارا معاكسا سنة ٢٠١٦ ضد الحملة الطلابية المنادية بإزالته تحت شعار «رودس يجب أن يسقط».. وقال فى بيان وقتها: «إن هناك دليلا تاريخيا واضحا يشرح لماذا هو هنا».. 

ومعروف أن «سيسيل رودس» كان طالبا فى كلية «أورييل» فى جامعة أوكسفورد، كما أنه بعد أن أصبح من كبار تجار العبيد قام بتمويلمنح دراسية تقدم للطلاب من أنحاء العالم، ما جعل الكلية التى ترك لها نصيبا ضخما من ميراثه، تقيم البناية التى تحمل اسمه ويعلوها تمثاله..  ومعروف أيضا أنه استعمارى عتيق أسس مستعمرة «روديسيا» فى قلب أفريقيا، وكان يؤمن بالتفوق العرقى للإنسان الأبيض، وأصبح رمزا للعنصرية.

 لكن استجابة مجلس الكلية لطلب إزالة التمثال، لم ترض البروفيسورة «لويزريتشاردسون» نائبة رئيس الجامعة التى كتبت مقالا قالت فيه إن «نيلسون مانديلا» لو كان حيا لما أيد مطلب إزالة التمثال، وتسبب المقال فى اعتراض شديد من ١٤ من عمداء وأساتذة الجامعة الذين كتبوا بيانا نشرته الصحف ردا على مقالها، محتجين على تحدثها نيابة عن الطلاب السود، واتهموها أيضا بسوء استخدام ما يمكن أن يقوله الزعيم الأفريقى الراحل فى هذا المجال.

تاريخ العار البريطانى

من جانب آخر كشفت دراسة لجامعة «لندن كوليدج» تفاصيل دقيقة حول التاريخ البريطانى المظلم فى القرون الماضية وحتى منتصف القرنالـ١٩ فيما يتعلق بالرق والاتجار فى العبيد..  ونشرت الدراسة على موقع الجامعة الإلكترونى متضمنة أسماء التجار البارزين والشركات والبنوك التى تواطأت فى جلب العبيد السود والاتجار فيهم، وشملت الدراسة شركات بريطانية عالمية مثل «لويدز» للتأمين وبنوك كبيرة مثل باركليز وبنك اسكوتلندا، ما اضطر هذه الشركات إلى تقديم اعتذارات علنية عن تاريخها الأسود واستنكار لما جرى، وتأييد لمطالب المساواة وحماية حقوق الأقليات، بل إن هذه الشركات والبنوك أعلنت استعدادها لتقديم الأموال لدعم مشروعات وخدمات تقدم لأبناء الأقليات العرقية المختلفة فى بريطانيا. . وقالت شركة «لويدز» على لسان متحدث باسمها: نحن آسفون للدور الذى لعبته «لويدز» فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر فى تجارة العبيد، لقد كانت هذه فترة مخزية وجالبة للعار فى التاريخ الإنجليزى، ولنا الآن.. ونحن ندين هذا السلوك الذى لا يمكن الدفاع عنه، وسوف نقدم الدعم المالى للجمعيات الخيرية والمنظمات العاملة على رعاية الأقليات العرقية لتحسين فرص حياة أبنائها..  وعلقت «ليلى موران» وهى من قيادات حزب الأحرار الديموقراطيين على ذلك قائلة: إنها ستكتب لمديرى هذه الشركات التى ورد ذكرها فى الدراسة، تطالبهم جميعا، بتقديم الدعم المالى للأقليات.. بينما طالب بعض كتاب الصحف ليس فقط بأن تدعم الشركات المذكورة الأقليات الملونة داخل بريطانيا بل إن عليها دعم البلدان التى تعرّضت لحملات الاستعمار وسرقة مواطنيها وتحويلهم إلى عبيد، من خلال إنجاز مشروعات تنموية فى هذه البلاد، فى أفريقيا ومنطقة الكاريبى.. واقترح كاتب آخر إنشاء متحف فى بريطانيا يرصد تاريخ العبودية ويجمع كافة الوثائق والتماثيل والبيانات حول هذا التاريخ المخزى.. مضيفا: لقد تأخرنا كثيرا فى إقامة هذا المتحف الذى يمكن أن نضع فيه تماثيل تجار العبيد التى يحطمها المتظاهرون. 

٤٧ ألف مالك للعبيد

أما البروفيسور «ماثيو سميث» رئيس مركز دراسة تاريخ العبودية فى بريطانيا، فيقول إن المركز التابع لجامعة وسط لندن أنشئ سنة ٢٠٠٩ويقوم منذ ذلك التاريخ بدراسة هذا التاريخ وتأثيره على الثقافة والحياة العامة فى البلاد حتى الآن.

وقد رصدنا ونشرنا على الإنترنت وكشفنا لأول مرة حقائق ومعلومات عن هويات الـ٤٧ ألف مالك للعبيد الذين تلقوا تعويضات مالية من الدولة عندما تقرر إلغاء النظام العبودى ومنع هذه التجارة فى سنة ١٨٣٣.. وبلغت التعويضات عن خسارتهم لـ«ممتلكاتهم» من النساء والرجال والأطفال فى الكاريبى. كما رصدنا بيانات عن ١٣ ألفا من المتورطين فى هذه التجارة فى منتصف القرن الثامن عشر.

إن ظلال هذا التاريخ المظلم لاتزال ثقيلة على حاضرنا، ونحن نسعى لدراسة تاريخ مقاومة العبودية وإلقاء الضوء على الشخصيات البارزة التى تمكنت من إلغاء هذا النظام المعادى للطبيعة الإنسانية.