الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
 وداعًا طلعت حرب!

وداعًا طلعت حرب!

فى هدوء شديد وشجاعة نادرة استقال «طلعت حرب» من رئاسة بنك مصر لكى ينقذ بنك مصر وكل المشاريع والشركات التى أسسها!!



 

وعندما نشرت الصحف خطاب استقالته توقفوا طويلاً أمام سطر يقول فيه مبررًا استقالته «أشعر الآن أننى أصبحت بحال قرر الأطباء فيها ضرورة أن أتخلى عن العمل تمامًا للعناية بصحتى».

 

 

ولم يعرف الناس حقيقة ما جرى من تفاصيل المؤامرة على طلعت حرب إلا بعد مرور فترة طويلة، بل إن طلعت حرب نفسه رفض كل محاولات الصحافة للحديث فى هذا الشأن.. ولعل العبارة الوحيدة التى عرفها الناس وقتها هى ما قاله عقب استقالته لسكرتيره الخاص: لقد مت ولم أدفن!!».

 

التزم «طلعت حرب» الصمت وعاش أيامه الأخيرة فى عزلة فرضها على نفسه، وانقطعت الزيارات والسهرات، فقد كانت مصر قد بدأت فى متابعة أخبار الحرب العالمية الثانية ومعارك هتلر فى أوروبا وقرب وصوله إلى مصر..لم يكن لطلعت حرب حياة اجتماعية صاخبة فهو لا يحب السهر وينام مبكرًا وأصبح أسير المنزل وسط بناته الأربعة، ويقول الأستاذ «فتحى رضوان» فى كتابه «طلعت حرب بحث فى العظمة»:

 

ماتت زوجته وهو بعد فى كمال الرجولة فلم يتزوج سواها، وترملت بنتاه الواحدة بعد الأخرى،وكانت بناته يقمن فى منزله مقام الزوجة، يشرفن على شئون الدار، وتعينه عن الاستعانة بسيدة من غير ذوى قربًا، ليشعن فى الدار روح المرأة التى لا يستغنى عنها ودار أعزب أو متزوج، وقد فقد كذلك طلعت حرب ولده الوحيد- حسن- فتجلد تجلدًا يدل على صلابة إرادته وقوة احتماله، ولعل طلعت حرب كان الوحيد بين رجال مصر الكبار الذى احتمل حياة العزوبة على كثرة أعبائه وشدة حاجته إلى بيت يخفف عنه ما يلاقيه من جفاف العمل فى المال والاقتصاد والتفكير الدائم فى الأرقام والحساب ومواصلة الحياة يومًا بعد يوم فى وقار وتشدد وبعد عن جميع المجتمعات التى كان يغشاها علنًا أو يغشاها سرًا أمثاله فى المجتمع المصرى».

 

كانت بنات طلعت حرب الأربعة هن: فاطمة وعائشة وخديجة وهدى، التى كانت متزوجة من الأستاذ «محمد رشدى» والذى تولى رئاسة بنك مصر عام  1959 وفى مقال مهم له كتب يقول:

 

«حينما أساء إلى طلعت حرب نفسه بعض الحساد والحاقدين، بقى هو قوى الإيمان بنفسه وبمتانة مركز البنك ، كبير الثقة بأن الحقيقة سيكشف عنها الناس ذلك إنه لم يفكر فى شخصه عند هذه الكارثة ومع الإلحاح الكبير من مريديه عليه فى أن يتكلم، آب إلا أن يلزم الصمت وكان يكرر دائمًا:

 

- أن الفناء مصير كل حى،وما أريد إلا الحياة للبنك وشركاته وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون.

 

»

 

وهكذا مضت الأيام والأسابيع حوالى 24 شهرًا بالتمام والكمال حتى رحل طلعت حرب يوم 13 أغسطس سنة 1941، وبكته كل مصر عارفة بفضله وقيمته ومكانته التى لا ينكرها إلا جاحد، وجاءت جنازته بمثابة رد الاعتبار له، كانت جنازة مهيبة تليق بزعيم ثورة 1919 الاقتصادية.

 

وحرصت جريدة الأهرام على أن تنقل للقراء تفاصيل الجنازة فكتبت تقول:

 

«شيعت مصر أمس بين الحزن والأسى فقيدها العظيم المغفور له «طلعت حرب باشا» فاشترك فى جنازته الكبراء والعظماء على اختلاف أحزابهم كما اشترك فيها كثيرون من الموظفين فى بنك مصر وشركاته وطلبة الجامعة والأزهر والمعاهد والمقيموين فى القاهرة.

 

وقد أقيم سرادق كبير للعزاء بجوار دار الفقيد بشارع الملكة نازلي- رمسيس الآن- توافد عليه المشيعون منذ الصباح، فلما بلغت الساعة العاشرة سارت الجنازة يتقدمها ثلة من مشاة البوليس وفرسانه بقيادة القائم مقام «محمد شكرى بك» ثم بعض خدم الفقيد يحملون أو سمته ونشاناته، فبعض موظفى بنك مصر وشركاته يحملون الأكاليل ثم نعش الفقيد الكريم محمولاً على أعناق بعض موظفى البنك ثم المشيعين يتقدمهم صاحب العزة «فايز طبوزادة بك» التشريفات موفدًا من حضرة صاحب الجلالة الملك- فاروق- فصاحب الدولة «حسين سرى باشا» وسعادة «محمد حفنى الطرروى باشا» نائبًا عن رفعة «مصطفى النحاس باشا»، وسعادة الدكتور أحمد ماهر باشا وفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ «مصطفى المراغى»..وأصحاب المعالى والسعادة «أحمد محمد حسنين باشا» والوزراء الحاليون والسابقون وكثير من الشيوخ والنواب ورجال القصر الملكى ورجال الدين نذكر منهم مفتى الديار المصرية ورئيس المحكمة العليا الشرعية وشيخ مشايخ الطرق الصوفية ووكيل الأزهر والقمص صليب ميخائيل وكيل بطريركية الأقباط نائبًا عن غبطة الأنبأ يؤانس والوزراء المفوضين للدول الشرقية وكبار الموظفين فى الحكومات والمفوضيات الأجنبية والشركات والبنوك ورجال بنك مصر وشركاته وكثير من أعضاء الهيئات التجارية المصرية والأجنبية والطلبة.

 

وقد سارت الجنازة إلى جامع قبة الفداوية حيث صُلى على الفقيد الكريم، وعلى أثر ذلك تقدم أفراد أسرة الفقيد وسعادة الدكتور «حافظ عفيفى باشا» والأستاذ «عبدالمقصود أحمد» يتقبلون التعازى،واستقل بعض المشيعين السيارات إلى المدفن ثم استأنفت الجنازة سيرها مجتازة شارع العباسية، فشارع سليم عبده، فشارع جبانة الخفير فشارع الظاهر برقوق إلى المدفن حيث ورى الفقيد مقره الأخير بين الأسف العام والترحم عليه.

 

وقد ألقى كل من الأستاذ «على عبدالعظيم» المحامى بقلم قضايا البنك وعبدالملك شحاتة الطالب بجامعة فؤاد والأستاذ «عيسى متولى» من موظفى البنك كلمات أبنوا فيها الفقيد معددين مآثره على البلاد ثم أخذ المشيعون ينصرفون وهم يترحمون على الراحل العزيز سائلين الله أن يجزيه عداد حسناته.

 

وفى المساء توافد على سرادق المأتم الكثيرون من مختلف الطبقات وكان بينهم غبطة الأنبا يؤانس بطريرك الأقباط، تغمد الله الفقيد الكريم بواسع رحمته وعوض مصر عن فقده خيرًا وألهم آله الصبر والعزاء.

 

وتبارت الصحف والمجلات فى نشر مقالات وكلمات التأبين عن «طلعت حرب» وتحت عنوان «رثاء فقيد الوطن» يكتب الأستاذ الكبير «فكرى أباظة» قائلاً:

 

كتبت مجلات الهلال طويلاً عن طلعت حرب وحللت كثيرًا شخصية طلعت حرب وأنصفت مرارًا الرجل وهو حى وهو اليوم فى مماته أجدر بالتحليل والكتابة والإنصاف.

 

لم يشق الفقيد الراحل طريقه فى الحياة مستندًا إلى مال موروث أو جاه تخلف عن الآباء والأجداد، ولم يكن من الأسر الكبيرة التى يعتمد أبناؤها على نفوذها وسلطتها وزلفاها لدى أولياء الأمور، لم يشق طريقه مستندًا إلى غيره وإنما شق طريقه مستندًا إلى نفسه، امتاز الراحل بذاكرة تعتبر فذة، ففى كل مصرف قلم للتحريات يدرس أحوال المقترضين والمستدينين، ولكن ذاكرة طلعت حرب أغنت عن هذه الأقلام فى البنك والشركات والمؤسسات إذ كانت بمثابة قاموس مبوب مرتب منظم استجمع فيها تاريخ كل أسرة وكل شخصية وحقيقة ثروتها وديونها وحاجاتها وهذه الذاكرة الشاذة الممتازة العالمية كانت تسعف وتعطى حكمها فى الحال.

 

وامتاز الراحل بأنه كان خيرًا أفاض على بعض البيوت الكبيرة بره وعطفه ونجدته فأنقذها من الخراب، واستهدف البنك من أجلها استهدافًا لم تقره القواعد الفنية والأصول المصرفية ولكن الرجل كان اجتماعيًا ومن خريجى المدرسة القديمة ذات الوفاء والولاء والمروءة ولو كره الاقتصاديون والفنيون.

 

وامتاز الفقيد العظيم بجرأة لا مثيل لها وإقدام لا نظير له وقلب قد من حديد وسنده فى ذلك إيمانه بالله، وإيمانه بأن مهمته أن يفتتح وينشىء ويتوسع ومهمة الدولة والحكومة بعد ذلك أن تجد نفسها أمام الأمر الواقع فتؤيد أو تدعم أو تنقذ ولذلك نثر شركاته ذات اليمين وذات اليسار واجتاز الحدود شمالاً ومشرقًا وعبر البحر الأبيض إلى فرنسا فأنشأ فيها فرعًا وتوسع واندفع وراء الأمل ووراء المواجهة بالأمر الواقع فنجح فى نواح ولم ينجح فى نواح، ولكن لولا إقدامه ما كانت لنا هذه المنشآت ولا هذه الشركات.

 

خلف لنا الفقيد ثروة أدبية ومادية ملأت البر والبحر والجور وربطت بين مصر والشرق وبين مصر والإسلام، ولئن كانت هذه الثروة فى نظر البعض مرهقة ببعض الديون فمن واجب الورثة أن يصونوها ويدعموها ويبعثوها من جديد، وهذا ما فعلته الحكومة والبرلمان فقضى الرجل نحبه واختاره الله لجواره وهو يرى بعينيه أن ميراثه العظيم لأمته ودولته قد صانه الله- رحمه الله رحمة واسعة وألهمنا فيه الصبر والسلوان. وللحكاية بقية