الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

زكى نجيب محمود العاشق

«أرض مصر وأهلها»

 «أرض مصر وأهلها»، مقالات كتبها د. زكى نجيب محمود بالإنجليزية، وقد صدرت فى أمريكا فى كتاب بعنوان: «the land and people of Egypt» وهى قد نُشرت حديثا مترجمة لأول مرة بالعربية، وقد ترجمها سيد محمد عبد المحسن، وتعد ترجمة هذا الكتاب إضافة للمكتبة العربية لأنه كشف عن الصورة الرائعة التى قدم بها  د. زكى نجيب محمود لمصر وأهلها فى المجتمع الثقافى الأمريكى فى خمسينيات القرن الماضى، وقد صدر الكتاب عن دار مصر للكنوز المعرفية 2020.. الكتاب الجديد يستحق الاحتفاء به، والاحتفال بصفحات مشرقة من كتابات زكى نجيب محمود .



 

عقل العالم وقلب الأديب

 

يقول زكى نجيب محمود عن قصة تأليفه لهذا الكتاب: «فى أوائل عام 1956 تلقيت عرضا من دار كبرى للنشر فى الولايات المتحدة الأمريكية، يعرض علىّ أن أكتب كتابا متوسط الحجم عن مصر، يُصوِّر لقارئه أهم ما يتعلق بمصر، فى ماضيها وحاضرها، فما لبثت بعد ذلك يوما واحدا حتى انكببت انكبابا فى جمع المادة المطلوبة لأصوغها فى كتاب، وأذكر أنى إذ أخذت فى الكتابة شعرت شعور العاشق ينظم قصيدة يتغزل فى الحبيبة، دون أن يسمح لعاطفته - على شدتها - أن تجرفه فينجرف عن الحقيقة الواقعة كما يقررها التاريخ، وتقرها المشاهد العلمية وحسب تلك العاطفة أن تكون صادقة، فلا يضير الحقيقة الواقعة أن ينظر إليها الرائى بعين مفتونة بجمالها وجلالها معا».

أتم زكى نجيب كتابه فى ستة أشهر، ورسم صورة مشرقة عن مصر ملتزما علمية الحقائق المعروضة ودقتها، وهى حقائق لا ينكرها إلا جاحد أو ظلوم، فهى تشع  الضياء الباهر كما تشعه شمس الضحى كما يقول كاتبنا.

«وما حيلتى إذا كان المصرى إذا ما أنصفتُ فى تصويره ظاهرا وباطنا، وجدته يحمل فى سلوكه البادى حكمة الخبير، كما يُكن فى عمقه الخافى خشية الله ونقاء الضمير».

 

التأريخ للإنسان والمغالطة الكبرى

 

ويستطرد كاتبنا فيقول: «لقد وقع الغرب فى مغالطة كبرى، وكان ذلك على يد مؤرخيه، عندما ابتكروا له قسمة التاريخ ثلاثة أقسام: قديم ووسيط وحديث،  فظن أن هذه الأقسام متساوية الطول والوزن، ولما كان القسم الثالث هو ما يهم الغربى بصفة عامة، رأيته إذا ما أرخ للإنسان لخص القديم فى بضع صفحات 

واكتفى من الوسيط بلمحات، ثم أفاض فى القول فى الحديث فإذا الصورة التى أمامه تُوهمه بأن الدنيا بأسرها إنما اجتمعت له فى تاريخه الحديث، وأما القديم الذى  الذى امتد عشرات القرون، وشهد أكثر من عشرين حضارة فى تقدير أرنولد توينبى، فلا يرى منه فى صفحاته القلائل إلا طفلا يحبو أو قزما وقف به النمو عند حد محدود».

فعندما كان الشاعر اليونانى «هوميروس» ينظم ملحمته «الإلياذة»، كانت الأمة الرومانية كلها مازالت فى جوف العدم، وحين كان «هوميروس» ذاك ينظم ملحمته تلك، فقد كانت مصر قد أمضت من تاريخها نحو أربعين قرنا تُنشئ أدبا وشعرا وديانة».

 

ترنيمة إخناتون

 

وبدأ زكى نجيب كتابه بفصل عن مصر الفرعونية، وقد اهتم بشخصية إخناتون وقال أنه أول شخص فى التاريخ يؤمن بالله، مستخدما كلمة «الله» بنفس المعنى تقريبا الذى تستخدمه الأديان اليهودية والمسيحية والإسلامية، فقد أغلق جميع المعابد وأقنع شعبه بعبادة إله واحد، وكان يعتقد أن إلهه كان لديه طبيعة الأب الطيب الذى اعتنى بمخلوقاته، وكانت له ترنيمته الشهيرة لآتون، ومنها: «أنت الذى يُنبت البويضات فى النساء، وتجعل من الماء إناسا»، و«تُبقى على حياة الطفل فى بطن أمه، وتهدئه فلا يسقط له دموع»، و«إنك الراعى له فى بطن الأم». 

 

الفنان الفرعونى والفنان الحديث

 

ويتحدث كاتبنا عن الثروة الهائلة التى أسهمت بها حضارة الفراعنة فى الحضارة الإنسانية  فلقد قدموا للعالم أول فنون عملية متطورة مثل النسيج، وصناعة الزجاج وصناعة الورق، ووهبوا العالم الأبجدية الأولى، وألفوا أقدم الحكايات والقصائد والدراما، وقد أولى كاتبنا فن المصريين فى البناء اهتماما كبيرا فى كتابه فرصده على مر العصور، من العصر الفرعونى إلى العصر الحديث، وهو الأمر الذى أبرز عبقرية الفنان المصرى فيقول: «إن العمارة هى الهبة الإلاهية للمصريين، فقد أشادت مبانيهم بمواهبهم فى هذا المجال فى جميع مراحل تاريخهم الطويل»

ويشبه كاتبنا الفنان الفرعونى بأنه يشبه إلى حد كبير الفنان الحديث، فلم تكن أعماله وفقا لقواعد الرسم فلم يقلد الطبيعة لكنه اهتم بالصورة التى يمثلها فنه، والمعنى الكامن فيها.

 

مدن مصر متاحف ضخمة

 

الأقصر، والقاهرة، والإسكندرية متاحف ضخمة تروى قصة العمارة فى مصر فالأقصر (طيبة القديمة) مع مساحتها الواسعة عامرة بالمعابد والأعمدة التى تركها القدماء، وأبرز هذه المعابد معبد الكرنك الذى يعده زكى نجيب أحد عجائب الدنيا فى عالم الفن،  وفى الإسكندرية تتجلى بقايا العصر اليونانى الرومانى، والقاهرة ثرية  بالعمارة الفرعونية، وبالمساجد الجميلة المشيدة فى الأيام الأولى للمسلمين.

وقد اهتم زكى نجيب محمود فى كتابه بوصف مسجد السلطان حسن فيقول: حجم هذا المسجد يذكرنا بالمعابد المصرية القديمة، وتعد بوابته الضخمة التى يبلغ ارتفاعها ستين قدما مهمة فى تاريخ الفن، حيث تم تقليدها فى جميع أنحاء العالم الإسلامى، كما وصف مسجد ابن طولون، وأقواس حدوده الغربية التى بُنيت على هذا النمط الخاص لأول مرة فى مصر، وربما فى تاريخ العمارة العالمية، وكان أصل القوس القوطى المُدبب الذى لم يظهر فى فرنسا إلا بعد عودة المحاربين الأوربيين فى الحملة الصليبية الأولى من مصر.

 

الشخصية المصرية

 

وقد تحدث عن ما صورته حكايات ألف ليلة وليلة عن المجتمع المصرى فيقول: «إن مجموعة الليالى العربية بأكملها تعكس الحياة الاجتماعية فى مصر فى العصور الوسطى بشكل مباشر أو غير مباشر خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر، لكنها صورت حياة المدينة، حياة التجار والحرفيين، ولم تذكر الفلاحين وهذا أمر غريب جدا.

وقد أبرز كاتبنا شخصية الفلاح المصرى فى العصر الفرعونى القديم حتى العصر الحديث قائلا : «يمكن لعلماء الاجتماع أن يرووا الكثير من تاريخ الثقافة الإنسانية من خلال تحليل شخصية الفلاح المصرى سليل بانى الهرم الذى لا يفقد الحياة بعد الموت، والذى امتزج بالمسيحية ثم بالإسلام فهو مثال حى للتسامح والحب، أما الفلاحة المصرية فقد قال عنها « ربما لا يوجد مكان آخر فى العالم تجد فيه امرأة مجتهدة أكثر من زوجة الفلاح المصرى، فهى تقضى معظم الظهيرة جنبا إلى جنب مع زوجها فى الحقل، لقد شوهدت وهى تحرث وتحصد وتؤدى جميع الوظائف الزراعية «، كما خصص فصلا فى كتابه عن المرأة والحياة العائلية، وعن حقوقها الأكثر ليبرالية، ومسئوليتها مسئولية كاملة عن ممارسة حقوقها القانونية، وما حصلت عليه من مناصب قيادية، كما تحدث عن نشاط الجمعيات النسائية فى مجال العمل الاجتماعى.

لقد أكد زكى نجيب محمود فى كتابه «أن المهم فى الحديث عن المصرى وبلده وتاريخه هو الجوهر الأصيل الذى عبر عن نفسه بالدين والعلم والصناعة والفن،  والسيادة بهذا على سائر الدنيا، طيلة عشرات من القرون تلاحقت سطوعا كالشمس وضحاها والقمر إذا تلاها».