الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
مدرسة طلعت حرب!

مدرسة طلعت حرب!

أظن أن كتاب «طلعت حرب» الذى صدر  عام 1936 بقلم ثلاثة من الشبان هو أول كتاب يصدر عن زعيم مصر الاقتصادى . ثلاثة شبان هم «حافظ محمود» و«مصطفى  كامل  الفلكي» و«محمود فتحى عمر» هم من قاموا بتأليف هذا الكتاب المهم فى 182 صفحة . والذى أصبح بعد صدوره أحد المصادر  والمراجع المهمة لمن يتصدى  للكتابة عن طلعت حرب .    مقدمة الكتاب التى كتبها أحد المؤلفين وهو «مصطفى كامل الفلكي» تشرح لنا كيف جاءت الفكرة حيث كتب يقول : 



 «ملأ طلعت حرب باشا تفكيرى وخواطرى بجهوده الوطنية العملية المتواصلة،  فتمخضت هذه الخواطر  عن  فكرة كتاب عظيم يليق  بتاريخ هذا الرجل العظيم وتواردت خواطرى مع خواطر صاحبى الفاضلين الأستاذ «حافظ محمود» الكاتب الاجتماعى المعروف، والأديب محمود فتحى عمر «الوطنى الاقتصادى الشاب». 

وجدتنى أتتبع خطاه فأفكر فيه وأكتب عنه كتابة نفسية حارة ووجدتهما يتتبعان خطاه، فيفكران فيه ويكتبان عنه كتابة نفسية حارة، وسيجد القراء فى نهاية هذا الكتاب نماذج من المقالات التى كتبناها منذ زمن بعيد قبل أن تستوى فكرة هذا  الكتاب، وفى هذا تأييد قوى لما أقول».

اتفقنا وعقدنا العزم ثلاثتنا على إخراج هذا الكتاب ونشره بين الناس ليكون وثيقة من وثائق الشرف فى تاريخ عظماء المصريين، ولقد كان لا بد لتحرير هذه الوثيقة التاريخية من ثلاثتنا مجتمعين». ومضى  الأستاذ «مصطفى كامل الفلكي» يكتب فى تعريف هؤلاء الثلاثة قائلا : 

«فأولنا «حافظ محمود» هو الكاتب  الذى تلخصت فى قلبه آمال الشباب المصرى وعزماته، فصاغها بقلمه أفكارا هى الوحى الذى أوحى به  إلى جماهير الشباب  فى مصر هذه المشروعات الاقتصادية والاجتماعية كلها، التى تدعو  المصريين إلى سبل الإصلاح، فما من مشروعات الشباب فى الأدب أو العلم أو الاقتصاد أو الاجتماع، إلا وكان «لحافظ»  فيه رأى يوجهه، أو وحى يوحيه، أو فكرة يبثها أو يد يقدمها من وراء ستار، ناكرًا شخصيته ليعطى للمجاهدين مثلا من المثل العليا .  

 وثانينا «محمود فتحى عمر» هو الشاب النابه الفكر الذى ساهم فى كل مشروعات الشباب الاقتصادية بقسط هو القسط الوفير، وكان فى كل جهاد من جهود الشباب الوطنية فى مقدمة العاملين، حتى أصبح اسمه بين شباب كلية التجارة علما على العمل والجهاد، فلما تخرج فيها كان أول المغامرين والمكافحين بكدهم وجهدهم وساعدهم فى ساحة الأعمال الاقتصادية العامة . 

 وثالث هؤلاء الثلاثة كاتب هذه السطور، وحسبى بين زميلىّ  أننى جندى فى جيش الاستقلال الاقتصادي، وهبت روحى وقوتى وشبابى للخدمة تحت لواء الزعيم والمساهمة فى تحقيق المثل الأعلى الذى رسمه لشباب هذا الجيل . 

 فبفكرة صائبة وأسلوب صادق وإرادة مستقلة قد أخرجنا للناس هذا الكتاب سويًا ليكون رمزا للرجولة العاملة والعظمة الصامتة الخالدة». 

•• 

 يبدأ الكتاب بفصل عنوانه «بطل الإصلاح  الاجتماعي» ومن موضوعاته «فى صبح الحياة، يقظة الجهاد ، الدفاع عن التقاليد،  زعيم المعتدلين فى قضية تحرير المرأة، رأيه فى ثقافة النساء، وحى الإيمان». 

 وفى هذا الفصل أتوقف أمام بعض الحكايات المهمة، فقد أقام بنك مصر حفلا فى إحدى مناسبات بنك مصر فلما ظن المنظمون أنهم أشرفوا على الكمال فى تنظيمهم نظر طلعت حرب قائلا لهم: وأين مكان السيدات !!

 وأصبح تقليلدًا فى حفلات البنك واجتماعاته أن تشترك فيها المرأة اشتراكا فعليا بفضل زعيم مذهب المعتدلة فى الإصلاح الاجتماعى «محمد طلعت حرب» .

كان طلعت حرب يردد دائما: «إننا لا نكتب طمعا فى أن ننال تصفيق الجهال وعامة الناس وإنما نكتب انتصارا للحق وخدمة للدين».

وفى الفصل الثانى وعنوانه «المجاهد الوطني» يستعرض الكتاب كتابات  طلعت حرب الساهر على مصلحة مصر   ودفاعه المجيد عن قناة السويس ومهاجمة مشروع مد امتيازها وضمنها كتابه «قناة السويس» الذى صدر فى سنة 1910، وقد وصفه بأنه حدث عظيم فى تاريخ الدفاع الوطنى العلمى تحدثت به أمة بل أمم . 

 زعيم الاستقلال الاقتصادى.. هو عنوان الفصل الثالث ويتناول مسيرة طلعت حرب من فترة  التفكير والانتقال وشبح الاستعمار  الاقتصادى وتأليف كتابه «علاج مصر الاقتصادى ومشروع بنك المصريين أو بنك الأمة» سنة 1911، إلى أن يتحقق الحلم بعد سنوات بإنشاء بنك مصر  ومشروعاته العديدة وأصبح اسم طلعت حرب عنوانًا على النزاهة والحب والنجاح  والاستقلال فى نظر كل شيعة وكل حزب وكل بيت وكل حكومة مصرية.

 كان شعار طلعت حرب دائما «من حسب كسب» ولذلك عندما لاحظ أن بنك مصر يصرف مبالغ ضخمة فى شراء دفاتره ومطبوعاته حتى قام بتأسيس مطبعة مصر عام 1922 برأس مال خمسة آلاف جنيه !

 وكان «طلعت حرب» يردد دائما مقولة «فى رأيى يجب أن  ترسم للبلاد سياسة اقتصادية قومية ترمى إلى زيادة الإنتاج الزراعى والصناعي وحمايتهما حماية صحيحة، ثم إلى حمل البلاد جميعا على تفضيل المصنوعات المصرية على ما عداها فى جميع  الأوساط والهيئات والمصالح».

 وفى الفصل الرابع «طلعت العالمي» يعرض الكتاب لجولاته فى الشام والحجاز والسودان والعراق، وفى كل تلك الزيارات أقيمت له عشرات الحفلات والولائم تكريما له وكان يقول  للحاضرين : 

 «بنك مصر لا يألو جهدا فى تقديم أى معونة إلى أى بلد شرقى  يود أن يحذو حذوه، وإذا كان بنك مصر يفكر فى أى يوم من الأيام فى أن يكون له فرع فى أى بلد شرقى فهو إنما يفكر فى ذلك رجاء أن يكون قيامه بالعمل فى كل بلد شرقى مدعاة ليراه الشرقيون فيؤسسوا مصرفا مثله، إما بمفردهم وإما باشتراكهم  مع بنك مصر، واليوم السعيد هو اليوم الذى يرى فيه بنك مصر أن له بنوكا تشبهه فى جميع بلاد الشرق وتتبادل معه المنافع بعين الروح التى يعمل بها لمصلحة مساهميه وللصالح العام».

••

 ومن أهم فصول الكتاب فصل عنوانه «طلعت العظيم» ويتحدث عن العناصر النفسية  وصاحب  السعادة ونهضة الفن والسياسى  والداعية والخطيب وشخصية المدير، وحول كل صفة هناك قصة لها دلالتها ومغزاها العميق !

«ورغم كل ما حققه طلعت حرب، من مجد وشهرة ومكانة لا نظير لها يردد فى تواضع : «أنا الذى عشت ما عشت لم أشعر فى يوم  من أيام حياتى أننى كنت مغبونا أو أن حقى كان مضهوما، حتى ولا فى أيام الدراسة، بل إن الخيرة فيما  اختاره الله كانت  عقيدتي، وإن  نصيبى فى الحياة لم تشغلنى قط  قلته ولا كثرته، بل كان ولا يزال يرضينى الواقع دائما والحمد لله».

وعندما يسأله أحد الصحفيين: ما السر الذى يمكن أن يفسر نجاحكم؟!

يجيب قائلا: هذا سؤال تصعب الإجابة عليه لرجل  من رجال الأعمال منصرفة جميع قواه إلى إنجاح الأعمال التى يقوم بها، فهو يعمل ليصل إلى النجاح دون أن يفكر فى سر النجاح».

ويضيف: أعلم أنك تدفعنى دفعا للتحدث عن نفسي، وأنا عزوف عن ذلك بطبعي، ولكنى أعلم أننى إذ أفعل فإنما أتحدث بنعمة الله تعالى» .

 ويبقى فى الكتاب فصل «مدرسة طلعت حرب» وفيه نقرأ :

 «تتألف مدرسة طلعت حرب من أفكار ورجال وأعمال، فالفكر هو الذى يُكوّن الرجال ويخلق الأعمال، ولو لم يكن «طلعت حرب» مفكرًا عظيمًا، لما كان منتجا عظيما، ولقد غمرت آثار طلعت العملية أذهان الناس فشغلتهم عن آثاره الفكرية، ولو راجع الباحثون نظرياته الفكرية لوقفوا منها على عقلية جديرة بهذا الإنتاج العملى فى الحياة . 

 والواقع أن مدرسة طلعت حرب تغدو جامعة ذات كليات ومعاهد، ولقد أنتجت  هذه المدرسة من الأعمال ما لم تنتجه مدرسة عملية فى الشرق كله، وولدت هذه المدرسة فى نفوس الشباب من الآمال ما يحفزهم  على شق الطرق الجديدة فى العمل وتدبير المشروعات الجديدة فى الخيال، وأخرجت هذه المدرسة من الرجال نوابغ جددًا يعتمد على جهودهم الجيل العملى الجديد وتنظر  إليهم الأجيال المقبلة نظرتها إلى المثل الصالحة».

لكن مدرسة طلعت حرب ما كان لتتكون هذا التكوين العظيم كله ما لم يكن قد آمن بمبادئها، وروّج لبرامجها واشترك فى أداء رسالتها وعاون على تحقيق فكرتها رجال كبراء لهم قوتهم ومكانتهم وفى أنفسهم وفى أموالهم وفى بلادهم .

نشأ الأستاذ «طلعت حرب» أستاذا بالفترة  والموهبة، ثم زادت الأيام أستاذيته رسوخًا، إن مدرسة طلعت حرب مدرسة لا تتعلق باسم صاحبها ولا بشخصيته قدر ما تتعلق بإنتاجه فى الفكر والإرداة والعمل، إن أفكاره ومبادئه لتتسرب  إلى نفوس مواطنيه  فيما يتسرب إليها من الأفكار والمبادئ منذ الجيل الماضي، فيتأثرون بها من حيث لا يشعرون شأن أصحاب المدارس الفكرية الإصلاحية فى كل زمان ومكان. 

إن الجيل الجديد سوف يخلد اسم هذه المدرسة بتأسيس كلية جامعية للعلوم الاقتصادية تحمل اسم هذه المدرسة «مدرسة طلعت حرب» !  وللحكاية بقية