الثلاثاء 16 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

مستقبل لايرى بالعين المجردة 3

التفاهة تحرق العالم

ريشة: نسرين بهاء
ريشة: نسرين بهاء

كان مشهد العجز أمام الوباء فى الغرب والشرق مدهشا للجميع خاصة لطائفة المنبهرين بقشرة التقدم التى دائما ما يضعونها موضع مقارنة مع واقع مجتمعاتهم.



فى هذه المحطة الثالثة التى نحاول فيها العثور على ملامح مستقبل لا يرى بالعين المجردة يستوقنا هذا العجز ويطرح علينا سؤالا ما هو مصدره؟ 

يطاردنا السؤال لأن صورة العجز لم تكن طبيعية بل كانت مخجلة فى مسيرة التقدم البشرى الذى تصورنا حتى نهايات العام 2019 أنه وصل إلى درجة تقترب من الاكتمال فجاء العام 2020 وهو يحمل معه فضيحة العجز لكل المجتمعات المغطاة بقشرة التقدم.

المخجل فى هذا العجز ليس ارتفاع أرقام الإصابات أو الوفيات أو قصور القدرة العلمية فى الوصول إلى دواء ولقاح أنه أعمق من ذلك، كشف الوباء فى أيام قليلة فساد النظام العالمى المتقدم الذى يدعى توفيره للرفاهية والعدالة الاجتماعية للإنسان.

كانت صدمة مؤلمة فمن يدعون أن أنظمة الرعاية الاجتماعية تغطى الجميع من الطفل إلى الشيخ تجد الواقع المخجل يقول إن الآلاف يتوفون فى البيوت ودور المسنين تحولت إلى مقابر جماعية والمستشفيات تخضع لنظام العرض والطلب وستحدث عملية انتقاء لمن يستحق النوم على سرير الشفاء.

تتفاخر المجتمعات المتقدمة بشراهة الاستهلاك ورقى المستهلك الذى فقد وحشية التكالب على المعروض بسبب وفرة هذا المعروض الزائد عن الحد وديمومته، كشر الوباء عن أنيابه فعاد المستهلك الراقى إلى بدائيته الأولى وصارع أخاه المستهلك على أوراق التواليت ووقف الرجل المسن الضعيف فى الهايبر ماركت داخل عاصمة الإسترلينى لندن مهزوما أمام الأرفف الفارغة بعد أن استولى أخوانه من المستهلكين الأقوياء على كل شىء كأن سرب من الجراد مر بشراسة على الأرفف.

لم تنجو السلطة السياسية فى مجتمعات التقدم من فضيحة العجز بل تصدرت خشبة المسرح ووقف أرباب هذه السلطة بملابس المهرجين مرة يطلقون تصريحات جوفاء أو يتراقصون فى حركات بهلوانية للتخفيف من فضيحة العجز أمام شعوبهم المخدوعة فى وهم التقدم.

بمجرد انتهاء فقرة المهرج يتحول أرباب السلطة إلى لصوص محترفين لا يقلون وحشية عن أسراب الجراد من المستهلكين، يخططون بمهارة اللص المحترف لسرقة صفقة أجهزة تنفس صناعى أو الاستيلاء على شحنة كمامات.

ظهروا فى أيام الوباء على حقيقتهم فما كانوا يمارسونه سرا من سرقة مقدرات هذه الشعوب المخدوعة باسم العولمة والليبرالية الجديدة والرأسمالية وإطلاق الحريات وصواب رؤية النخبة أصبح علنا.. نحن مجرد لصوص أجهزة تنفس وكمامات وسقطت شعارات براقة استمرت قرن كامل. أطلقت جائحة الوباء وفضيحة العجز ما هو أسوء من وحشية المستهلك ولصوصية أرباب السلطة، أشتعلت حرب بين ضفتى الرأسمالية الشرقى والغربى بل بين الغربى والغربى والشرقى والشرقى الكل يتهم الكل بالمسؤلية عن الوباء فالغربى يتهم الشرقى بالكذب وأخفاء الحقيقة والشرقى يتهم الغربى بأنه ناشر الفيروس ولا يهم هنا أرقام الضحايا أو توحيد الجهود من أجل القضاء على الوباء.. الأهم استمرار سياسة الجشع وتحقيق أكبر مكسب سياسى واقتصادى من وراء الكارثة.

نعود للسؤال المطروح ما هو مصدر العجز الفاضح وهذا الانهيار ؟ يجيب على السؤال الفيلسوف الكندى د.آلان دونو.. فالعالم الموهوم بالتقدم سلم نفسه كلية إلى التفاهة والتافهين وأصبح قائم على «نظام التفاهة» كما يصفه فى عمله الدقيق. 

يقدم دونوتشريح لهذا العالم الرافع لشعارات التقدم وكيف سلم نفسه للتافهين والذين تحولوا إلى سلطة محركة تقود مزاعم الرأسمالية فى الرفاه وأن هذه النخبة المتسلطة التى تدعى أنها الأعلم والأجدر ما هى ألا مجموعة من التافهين الجشعين يحتلون مراكز سياسية واقتصادية وإعلامية وثقافية وكل مايهمهم ترسيخ مفهوم التفاهة ليحموا سلطتهم ومكاسبهم حتى تحولت التفاهة إلى نظام محكم يقضى على كل ما هو جاد وحقيقى.

قبل الذهاب مع الفيلسوف دونو فى طرحه الذى سيكشف أسباب هذا العجز الفاضح، يجب أن ندرك بعض الأمور أولها أهمية وجود نخبة حقيقية داخل المجتمع تستطيع استشراف وقوع الخطر وهى تطلق من واقع مسئوليتها الضميرية صيحة تحذير من أجل نجدة هذا المجتمع.

صدرعمل د. آلان دونو قبل ثلاث سنوات وفى الأغلب لا يهتم المجتمع فى جموحه بصيحات التحذير تلك حتى تقع الكارثة كما هو حادث الآن وإذا كان المجتمع به شيء من العقل فسينتبه لصيحات التحذير التى أطلقت سابقا ويعود لها لكى يغزل منها نسيج مستقبله أما فى حال الإصرار على بقاء نظامه ونخبه كما هى فالمستقبل هنا يصبح سرابا.

يظهر تشابه فى بعض النواحى بين تحليــل د.آلان دونـو من خــلال عمله «نظام التفاهة» لأزمة المجتمع البشرى الحديث وما قدمه د تيد كازينسكى فى بيانه «المجتمع الصناعى ومستقبله».. تم تقديم عرض لتحليل د.كازينسكى فى الأسبوعين الماضيين.

يوجد فارق كبير بين الاثنين فدونو واجه هذا المجتمع من خلال الفكر واستخدام الوسائل القانونية فى الوقوف أمام بعض الشركات المستغلة فى وطنه كندا أما د كازينسكى فخرج عن كل الأطر السلمية فى المواجهة وتحول إلى إرهابى يرسل القنابل إلى مؤسسات المجتمع الأمريكى وهو أمر لا يقره أى عاقل رغم جدية التحليل الذى قدمه من خلال بيـــــانه «المجتمع الصناعى ومستقبله». يقدم د.آلان دونو فى عمله نماذج فاسدة ومرعبة ومخجلة نتيجة لحجم تسلط التفاهة والتافهين على مقدرات السلطة السياسية والاقتصادية والثقافية فى كندا والولايات المتحدة وأوروبا أيضا وهى نماذج حالية وحاضرة.

مع وجود كل هذا النقد الصريح والواضح فى العمل للمنظومة الرأسمالية وامتلاك د دونو صاحب النقد وعمله شهرة واسعة فى مجتمعه الغربى أتعجب من وجود مجموعة من البلهاء أو مدعى البلاهة وعن جهل مقصود مما يسمون أنفسهم «نشطاء الخارج» المقيمين فى الولايات المتحدة وكندا وأوروبا يتحدثون عن اليوتوبيا الغربية على وسائل التواصـــــل الاجتماعى ولا يكتفون باليوتوبيا المزعومة بل يوجهون سمومهم مدفوعة الأجر إلى الدولة المصرية رغم أن الدولة والأهم الأمة المصرية أثبتت بجذرها الحضارى فى مواجهة هذه الجائحة الوبائية أنها الأكثر حكمة فى المواجهة وليست اليوتوبيا الغربية الزائفة.

تجد فى عمل آلان دونو توصيفات متعددة لهؤلاء التوافه الفارغين مثل «الأميون الجدد» وأن لم يشخصن بالتأكيد أصحاب الجهل المقصود من «نشطاء الخارج»  الذين يقتاتون على ادعاء المعرفة مع شعورهم العميق بالدونية أمام مجتمعات مأزومة تعانى من تسلط التفاهة والتافهين بشهادة فلاسفتها.

يبقى أمر أخير وعلى درجة كبيرة من الجدية هو كيفية وصول هذا العمل الهام إلى المكتبة العربية فالعمل له نسخة بالإنجليزية مترجمة عن الأصل الفرنسى اللغة الأم لدونو حيث ينتمى لإقليم الكيبك فى كندا المتحدث بالفرنسية وتستحق ترجمة العمل عن الأصل الفرنسى والتى قامت بها دكتور مشاعل عبدالعزيز أستاذ القانون بجامعة الكويت إشادة خاصة فهى من الترجمات النادرة المحكمة التى تضيف بالشروح التى قدمتها الكثيرللعمل الأصلى.

يقدم دونو توصيفات متعددة لهذا التافه الذى احتل مراكز التحكم بالسلطة ولكن فى عمله نتوقف عند تعريف قادم من القرن السابع عشر للكاتب الإسبانى بالتازار جراسيان فى كتابه «الناقد» (شخص ‘يرى كأنه عالم ولكنه لم يدرس، رجل حكيم لكنه لم يفعل أى شىء، له لحية مهيبة بدون أن يحرق زيت الليل، مليء بالعواصف لكنه لم يمسح غبار الكتب قط، متنور جدا رغم أنه لم يسبق له السهر، مغطى بالمجد دون أن يعمل أبدا خلال الليل أو النهار، باختصار هو كاهن الابتذال، شخص يتفق الجميع على ما لديه من معارف عظيمة رغم أنهم لا يعرفون عنها شيئا). 

من تاريخ هذا التعريف الذى استحضره دونو من القرن السابع عشر يتضح أن فيروس التفاهة والتافهين متوطن فى المجتمع البشرى لكن لم تكن أمامه فرصة للانتشار ثم التحكم فى السلطة ألا مع سيطرة الرأسمالية بصورتها المتوحشة وتحولاتها المتعددة.

لكن كيف استطاع التافهون بتفاهتهم تحقيق سلطتهم داخل المجتمع الحديث؟ نسير مع آلان دونو فى عمله لنعرف الإجابة.