الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

مستقبل لايرى بالعين المجردة 2

الفيروس على الأرض والحرب فى الفضاء

ريشة: أسماء الموجى
ريشة: أسماء الموجى

 فى الأسبوع الماضى بدأنا لقاء مع مجنون أو الدكتور تيد كازينسكى عالم الرياضيات خريج جامعة هارفارد، الرجل الأشد خطورة على الأمن القومى الأمريكى فى التسعينيات من القرن الماضى بعملياته الإرهابية. 



أجبر د.كازينسكى الصحف الأمريكية على نشر بيانه المكون من 30 ألف كلمة مقابل توقفه عن إرسال طروده المفخخة إلى الجامعات والمراكز العلمية وكان البيان بعنوان (المجتمع الصناعى ومستقبله) بالتأكيد الأعمال الإرهابية التى قام بها توصمه بالجنون لكن ما جاء فى بيانه يقدم تشريحًا مهمًا للمجتمع البشرى الحالى فى لحظة ما بعد الحداثة، تم القبض على د.كازينسكى بعد إرشاد شقيقه وزوجته عنه لأنهما سمعا نفس الأفكار الواردة فى البيان منه. 

يقضى حاليًا د. كازينسكى عقوبة السجن مدى الحياة فى سجن شديد الحراسة بعد اعترافه بالذنب عن مقتل ثلاثة وأصابة 23 شخصا بعاهات جسيمة بسبب 16 عملية إرهابية قام بها مع رفضه الاعتراف بجنونه.

عرضنا مقتطفًا من بيان د. كازينسكى الأسبوع الماضى ونعود اليوم مع ما يهمنا بعيدًا عن إجرام د. كازينسكى ووصفه بالجنون ألا وهو قدرته على تشريح المجتمع البشرى الحداثى فى لحظته الراهنة وما فعلت الرأسمالية والنيولبرالية به.

 قبل أن نذهب مع د. كازينسكى إلى تشريحه الدقيق يجب أن نتوقف عند خبر يبدو غريبًا فى توقيته ومحتواه لكنه فى الحقيقة يلقى بظلاله على محتوى هذه السلسلة المتعلقة بمصطلح ما بعد كورونا وأيضا يعزز وجهة النظر التشريحية للدكتور تيد كازينسكى حول المجتمع الصناعى ومستقبله. حسب إحصاءات جامعة جون هوبكنز فالولايات المتحدة تفقد يوميًا آلافًا من الضحايا نتيجة لجائحة فيروس كورونا والرئيس الأمريكى دونالد ترامب فى عمل غير مسبوق يلقى يوميًا ببيان صحفى عن تطور جائحة كورونا فى الولايات المتحدة ويوجه فى بيانه اليومى اتهاماته المعتادة إلى الصين وحلفائها كمنظمة الصحة العالمية وهذه الاتهامات آليات طبيعية فى الصراع الإمبراطورى بين الولايات المتحدة والصين. 

وسط هذه الجائحة الشرسة التى تهدد الولايات المتحدة كما يبدو يخرج الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بقرار تمت الموافقة عليه من جميع المؤسسات التشريعية الأمريكية وبعيد تماما عن جائحة كورونا وآلاف الضحايا ماذا يقول القرار؟

«يجب أن يكون لدى الأمريكيين الحق فى تنفيذ الدراسات التجارية والاستخراج والاستخدام للموارد فى الفضاء وفقا للقوانين ذات الصلة قابلة لتطبيقها ويمثل الفضاء من وجهتى النظرالقانونية والعملية مجالا فريدا من نوعه لأنشطة الإنسان والولايات المتحدة لا تنظر فيه باعتباره ملكا عاما للبشرية» . لقد ألغى القرار الأمريكى من طرف واحد أحقية بنى البشر جميعا فى موارد الفضاء وهى مواثيق أقرتها الأمم المتحدة سابقا وأصبح الفضاء والكواكب وفق القرار الأمريكى ملكا خاصا للولايات المتحدة ولشركاتها التى تريد أن تستثمر فى الفضاء.

يبدو أن مع صدور القرار الأمريكى انطلقت إشارات من رجال الإدارة الأمريكية لتبين إلى أى مدى يمكن للولايات المتحدة الدفاع عن قرارها الغريب فى توقيته ومحتواه.

ففى ندوة نظمها مركز الأبحاث الاستراتيجية والدولية بواشنطن عبر الإنترنت قال كريستوفر فورد مساعد وزير الخارجية الأمريكى «على خصومنا المحتملين أن يعلموا أن لا فرق من هذه الناحية بين مكونات البنية التحتية الفضائية للولايات المتحدة أيًا كانت.. إذا اعتديتم عليها فإنكم بالتالى اعتديتم علينا، كما نوجه رسالة واضحة مفادها أننا لا نستبعد حتى استخدام السلاح النووى للرد على أى هجوم كبير على المكونات الأساسية لبنيتنا التحتية الفضائية وأن العقيدة النووية للولايات المتحدة تقضى بإمكانية اللجوء إلى استخدام السلاح النووى، دفاعا عن مصالحها الحيوية ومصالح حلفائها وشركائها، حتى فى حال عدم لجوء العدو إلى استخدام هذا النوع من السلاح».

 يأتى هذا القرار والتهديد ليعطى بوضوح حقيقة عدوانية المجتمع الحديث فى النسخة الأمريكية منه، فالمعركة مع الفيروس الشرس على الأرض لم تنته أو تحسم بعد وفى نفس الوقت يفتح أبواب حرب على مساحة الفضاء الشاسع.

بمعنى آخر هو يستغل انشغال المجتمع البشرى فى كارثة بحجم الوباء ليصنع كارثة أخرى من أجل إدارة رأس المال فى سوق جديدة مرتبطة فى السنوات القادمة بالمشروع الأمريكى للعودة إلى القمرفى العام 2024 وبعده استيطان المريخ فى عام 2030. من أين تولدت هذه العدوانية الشرسة داخل المجتمع الحديث أو الصناعى كما يصفه تيد كازينسكى؟ نعود هنا للبيان وعملية التشريح التى قام د. كازينسكى بها.

يتناول كازينسكى مفهوم السلطة داخل هذا المجتمع فلا يكفى امتلاك السلطة ليشعر هذا المجتمع بأمان بل يجب عليه ممارسة سلطته من خلال سلسلة من الأهداف ولو طبقنا ما قاله كازينسكى على الحالة الأمريكية فى حربها ضد الفيروس ثم قرارها المفاجئ بمصادرة الفضاء لحسابها فهى تمتلك السلطة والقوة لكنها تستخدم السلطة بشكل مستمر لتحقيق أهدافها حتى لو تعارضت مع الحكمة أو أثرت على مجتمعات أخرى ودفعتها إلى الصراع معها وهو ما حدث بالفعل فكان هناك اعتراض روسى على القرار الأمريكى وسيعقبه اعتراض صينى. 

أما على مستوى استخدام الفرد للسلطة داخل هذا المجتمع فهناك حالة من القهر يمارسها المجتمع تحرم الفرد من ممارسة السلطة فتؤدى بالفرد للفشل المتواصل فى تحقيق أهدافه، مما يسبب انهزامية الفرد وعدم احترامه لذاته ثم الاكتئاب 

حسب ما يراه كازينسكى فكل ما يطلبه هذا المجتمع من الفرد حتى يرعاه من المهد إلى اللحد الطاعة الكاملة ومستوى متوسط من الذكاء ومهارات بسيطة لأن المجتمع يرغب فى أن ينوب عن الفرد فى إدارته مقابل تقديم الرعاية له وبالتالى يفقد قراره وحريته.

لا تتوقف إدانة كازينسكى للمجتمع الصناعى فقط بل هو ينتقد معارضيه وعلى رأسهم الحركة اليسارية الحالية أو النشطاء كما يصفهم فهم منفصلون عن واقع ما يدافعون عنه وعن الفئات المضطهدة التى يعملون من أجلها وأن ما يقومون به مجرد أنشطة بديلة ترضى ذواتهم «معظمهم لا ينتمون إلى أى مجموعة مضطهدة بل يأتون من طبقات المجتمع المتميزة». 

أما المحافظون أو اليمين الذين يعترضون على تدهور القيم التقليدية داخل المجتمع تجدهم فى نفس الوقت يدعمون التطور التقنى وهم لا يدركون أن التطورالتقنى يتبعه تغيير على جميع مستويات المجتمع ومنها القيمى ويقدم كازينسكى شرحًا لكيفية تأثير التقنية على تغير القيم فى المجتمع « ينطوى انهيار القيم التقليدية على تفكك عُرى المجموعات الاجتماعية الصغيرة التقليدية كما تعزز الظروف الحديثة التى تستوجب أو تجذب غالبًا الأفراد للانتقال إلى أماكن جديدة من هذا التفكك وتفصلهم عن مجتمعاتهم الأولية بالإضافة إلى ذلك فالمجتمع التقنى يوجب إضعاف الروابط فى الأسرة والتجمعات المحلية الأخرى حينمـــا تؤدى دورهـــــا بكفــــاءة وفاعلية وفى المجتمـــع الحــديث فإن موالاة الفــــرد يجب أن تكـــــــون أولًا للنظـــــام (المجتمعى)». 

يستمر كازينسكى فى عملية التشريح لهذا المجتمع ليصل إلى سيناريوهاته المستقبلية وهى أغلبها متشابهة ومتشائمة وعندما تقرأ هذه السيناريوهات فى ظل الجائحة الوبائية الحالية تعطى شعورًا غامضًا مرتبطًا  بمنطقيتها أو عدم منطقيتها نترك الحكم على منطقيتها من عدمها للمتلقى.. «تقتصرسيطرة الأنظمة الكبرى على نخبة محددة كما يحدث فى الزمن الحاضر مع وجود اثنين من الاختلافات، تتفاقم سيطرة النخبة على الجماهير بسبب التقنيات الإضافية المتطورة وتصبح الكتل البشرية فائضة عن الحاجة لأن عمل الإنسان لن يكون ضروريا ويشكل عبئا عديم الفائدة على النظام وإذا كانت النخبة وحشية ولا تدرك معنى الرحمة، تقررببساطة إبادة هذه التجمعات البشرية، أما إذا اتسمت بالإنسانية فقد تستخدم الدعاية وبقية التقنيات السيكولويجية والبيولوجية للحد من البشر حتى تنقرض الكتلة البشرية وتترك العالم للنخبة».

ينتهى هنا لقاءنا مع (المجنون) تيد كازينسكى وننتقل إلى محطة أخرى فى البحث عن معالم مستقبل لا يرى بالعين المجردة.