السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
طلعت حرب:  باشا رغم أنف الملك!

طلعت حرب: باشا رغم أنف الملك!

كان آخر ما يتوقعه «طلعت حرب» أن يمنحه الملك «فؤاد» لقب باشا! صحيح أن لقب «باشا» حصل عليه المئات وربما الآلاف، وبعضهم حصل على اللقب بدفع رشاوى مالية! لكن اللقب لم يحصل عليه «طلعت حرب» إلا بالصدفة المحضة، ورغم أنف الملك «فؤاد» شخصيًا!



منذ البداية كان «طلعت حرب» يؤمن بمقولة مهمة وهى أن سبب نجاح بنك مصر هو فى الابتعاد عن زحام السياسة والحزبية، فهو قد فتح أبوابه لخدمة جميع المصريين عامة وخاصة على السواء، وأصبح موضع احترام وثقة كل حكومة مصرية تتربع فى دست الحكم، وصديقا لكل الأحزاب السياسية المختلفة المبادئ والمشارب.

ويقول أيضا: «ابتعاد السياسة عن البنك ليس ناتجا عن عدم اكتراث بمصالح البلد العليا، فإن المصرى الذى لا يكترث بمصالح وطنه لم يولد بعد، ولكنه اتباع للحكمة المأثورة لكل عمل رجال، فللسياسة رجال وللمال رجال ومن يخلط بين عمل وعمل اختلط عليه الأمر، والتوى عليه القصد، وأفلت منه سر النجاح».

ومن هنا جاء رفض «طلعت حرب» أن يطلق عليه البعض لقب «زعيم مصر الاقتصادى»، ومن هنا كانت مفاجأته عندما منحه الملك فؤاد الباشوية!

••

إن العلاقات بين «طلعت حرب» وبين الملك «فؤاد» وأفراد العائلة المالكة المصرية كانت فاترة دائمًا، بل عدائية فى بعض الأوقات!

هكذا يؤكد الباحث الأمريكى «إريك دافيز»، ويضيف: «تردد أن الملك فؤاد كان يشعر بغيرة شديدة من شعبية «طلعت حرب»، وكان «طلعت حرب» بدوره يشعر باستياء من عدم اهتمام القصر ببنك مصر أو مساندته، كما استاء «طلعت حرب» أيضًا من أن الملك فؤاد قد منح لقب الباشوية إلى «أحمد عبود» قبل أن يمنحه له، رغم أن مساهمة عبود فى التطور الاقتصادى لمصر كانت تقل كثيرا عن مساهمة «طلعت حرب»!

وفى مقابلة بين «إريك دافيز» و«محمد أمين أحمد» سكرتير «طلعت حرب» يعرف أن «طلعت حرب» غضب من الطريقة التى منحه بها الملك فؤاد لقب الباشوية آخر الأمر، والتى اتسمت بالاستهانة واللامبالاة، ففى عام 1931 دعا «طلعت حرب» «الملك فؤاد» لزيارة مصانع الغزل والنسيج بالمحلة الكبرى، وخلال الجولة قال له الملك: «مبروك يا باشا»!

ونعود إلى بداية الحكاية، عندما قرر «طلعت حرب» توجيه الدعوة إلى «الملك فؤاد» لافتتاح شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى يوم 23 مارس سنة 1931، وقبل الملك الدعوة ربما على مضض!

وكان من الطبيعى أن يلقى «طلعت حرب» كلمة ترحيب بالملك فى هذه المناسبة، وكان مما جاء فى هذه الكلمة قوله:

«قديمًا كان لجدكم الأعلى - محمد على باشا - القدح المعلى فى إحياء الصناعات الأهلية، ومن ضمنها الصناعات النسجية، وكانت المحلة الكبرى من أهم هذه الأوساط، ثم استمر المغفور له والدكم حريصا على إحياء ما اندثر من صناعات وتأييد ما بقى منها بدليل اشتراك مصر فى عهده فى المعارض الدولية، وعرض فيها المنسوجات المصرية، ومنها منسوجات المحلة الكبرى بالذات. وإذا كانت الصناعات النسجية فى القرن الماضى صناعات يدوية، وكانت أقرب إلى الصغرى منها إلى الكبرى، فإن جلالتكم حين تشرفون اليوم مصنع شركتنا تجدون الفرق بين العهدين ظاهرا، فترون صناعات الغزل والنسج قائمة على أحدث طراز وأحدث ماكينات، وترون بالجملة صناعة كبرى لصناعة صغرى وعهدا صناعيًا جديرا بأن ينال مكانه وسط الأعمال الجليلة التى تمت فى عهد جلالتكم الميمون.

والآن نتقدم إلى جلالتكم راجين باسم الله الرحمن الرحيم وباسم جلالة مليكنا المعظم أن تتنازلوا بافتتاح المصنع رسميا وأن تتفضلوا فتشرفونا بزيارته.

وتصف صحف تلك الأيام ما حدث بقولها: «ثم طاف «طلعت حرب بك» فى معية صاحب الجلالة بمغازل المصنع ومناسجه ومعداته المختلفة التى تشمل مساحة مقدارها عشرات الأفدنة، وبعد أن قضى جلالة الملك ساعتين كاملتين فى السير على قدميه ممتعًا قلبه بهذه النهضة المادية الملموسة، اتجه صوب باب المصنع رافعًا يده على رأسه بالتحية الملكية الجميلة قائلاً:

«متشكر جدا يا طلعت باشا»!

••

كان فرح الشعب المصرى بجميع طوائفه لا حدود له عندما عرف من صحافة الأيام التالية بنبأ حصول «طلعت حرب» على رتبة الباشوية.

واحتفت الصحف والمجلات بهذا الحدث، وأفردت الصفحات للكتابة فى هذا الخبر السعيد، وعلى سبيل المثال فقد صدرت مجلة «اللطائف المصورة» «عدد 4 مايو سنة 1931» وعلى صفحتها الأولى صورة «طلعت حرب» وبجوارها عنوان «الإنعام الملكى السامى المشكور» وكتبت تقول:

«استقبلت مصر - من أقصاها إلى أقصاها - بالغبطة والارتياح خبر تعطف جلالة مولانا الملك المعظم بالإنعام برتبة الباشوية، على حضرة الزعيم الاقتصادى الكبير صاحب السعادة «محمد طلعت حرب باشا»، فإن ذلك الإنعام من لدن جلالته حفظه الله جاء محققا لتمنيات ورغبات جميع أفراد هذه الأمة الكريمة من جميع الطبقات ومختلف النزعات والأحزاب.

ولا غرو، فإن ««طلعت حرب باشا» ومقدرته الاقتصادية تجلنا على أتمها وأكمل مظاهرها فى تقدم بنك مصر المطرد ومعروضات شركاته الناجحة فى المعرض الزراعى الصناعى الأخير، كما أن فضل جهوده الطيبة تناول أبناء البلاد عن بكرة أبيهم واختلاف مراتبهم ومهنهم وحرفهم ومصالحهم، وأصبح اسمه الكريم على كل شفة ولسان كالمنقذ الأعظم بمشاريعه الوطنية النافعة للبلاد وأبنائها من المخاطر الاقتصادية التى تتهددهم وتضعف نهضتهم وتقوض دعائم استقلالهم».

وقد استطاع الزعيم المنعم عليه أن يكتسب القلوب بما امتاز به من الثبات والحزم والجلد والتواضع ودماثة الأخلاق وكرم الخصال وحميد السجايا والانصراف إلى العمل المنتج النافع بهدوء ومثابرة ودون ضجة أو إعلان حتى حقق المشاريع التى عنى بوضع أسسها وحقق آمال مواطنيه وأمانيهم بها.

ولقد كان لسعادته من حب الأمة وإعجاب وتقدير جلالة الملك المعظم ونعمه ورضاه خير جزاء وأكبر مكافأة يطمع بهما المخلص لوطنه العامل لإعلاء مجده، وأن فى الإنعام الجديد وإجماع القلوب على الابتهاج به لأعظم برهان على ذلك ؟؟ على ما جبل عليه من تواضع ودعة أن يتيه افتخارا واغتباطا به.

وكتب الأستاذ «إسكندر مكاريوس» رئيس تحرير اللطائف المصورة مقالا بديعا عنوانه «زعيم أجمعت القلوب على حبه واحترامه» قال فيه:

«ومتى وصفنا رجلا من رجال مصر فى هذا العصر بمثل هذا الوصف يحار القارئ لأول وهلة فى تعرف من نعنيه وتعيينه! لأننا بفضل انقساماتنا السياسية وخصوماتنا الحزبية، وحملاتنا الطائشة بعضا على بعض لم يبق لسوء الحظ كثيرون من زعمائنا ينطبق عليهم مثل هذا الوصف، فالوفدى للوفديين وليس للبلاد جمعاء، والحر الدستورى للأحرار الدستوريين ومن عداهم خصوم له، والشعبى للشعبيين دون سواهم!

ولكنا مع ذلك لحسن الحظ لا نحتاج إلى تفكير طويل أو كبير عناء لمعرفة الزعيم الذى أجمعت القلوب على حبه واحترامه فاسمه اليوم - وقد كان دائمًا - على كل شفة ولسان وملء الأسماع وهو زعيم مصر الاقتصادى الأكبر صاحب السعادة «محمد طلعت حرب باشا».

أجل إنه زعيم وزعيم كبير جدا، وزعيم محبوب من جميع سكان البلاد على اختلاف طبقاتهم ومللهم ونحلهم ومذاهبهم ونزعاتهم، وهو زعيم عرف قيمة التخصص فعمل بها، وأدرك مهاوى السياسة ومخاطرها فابتعد عنها، وعلم داء مصر الحقيقى فشمر عن ساعد الجد لمعالجته وشفائها منه، ووجد الحجر الصحيح الذى لا بقاء لبناء استقلالها بدونه فسارع إليه وشيد صرح ذلك الاستقلال. وقد عرف ملك البلاد وزعماؤها وأقطاب حكومتها وأفراد شعبها فضله ومزاياه وقيمة العمل العظيم الذى يقوم به بهدوء وسكينة دون ضجة أو إعلان فأقبلوا على تعضيده ومؤازرته فيه، وأجمعوا على تأييده والإعجاب به والثناء عليه، فلما شمله جلالة الملك المعظم على فضله وشعر أن الإنعام صادف أهله وحل محله، وأن نظرة واحدة إلى صفحات الجرائد المصرية على اختلاف نزعاتها الحزبية تؤيد قولنا هذا، فقد كانت فى الأيام الأخيرة مرآة صادقة لعواطف الناس، ناطقة بإجماع الرأى العام - ولعلها المرة الأولى التى تجمع هذا الإجماع - على امتداح الباشا الجديد والاغتباط برضاء جلالة ملك البلاد عنه والإنعام عليه».

ومضى الأستاذ «إسكندر مكاريوس» يقول فى مقاله:

«إن جهود «طلعت حرب باشا» المجيدة زادت فى كرامة مصر ورفعت شأنها بين الأمم وأثبتت للغربيين مقدرة المصرى وكفاءته وجعلتهم يحنون الرءوس أمام عظمته.. وقد تناولت نتائج عمله الكبير وفوائده، الزارع فى زراعته، والصانع فى صناعاته، والمالى فى أعماله المالية، والتاجر فى تجارته، ولم تقتصر فى ذلك على القطر المصرى فحسب، بل تناولت المصريين فى الخارج أيضا، وتناولت الأقطار المجاورة بما أنشأ بنك مصر فيها من فروع تقضى حاجات سكانها، وتزيد روابط الألفة بينهم وبين مصر والمصريين.

ومن شاء زيادة فى الإيضاح والتفصيل فليقرأ خلاصة أعمال البنك فى العشر سنين الأولى من حياته، فهنيئًا لطلعت حرب باشا بما ناله من مكانة لدى ملك البلاد وفى قلوب سكانها، وهنيئًا لمصر بزعيمها الاقتصادى الأكبر الذى شيد دعائم استقلالها الصحيح».

••

وأخيرًا بقى أن تقرأ نص براءة القرار الملكى بمنح الباشوية لطلعت حرب وقد صدر بتوقيع «محمد توفيق نسيم باشا» رئيس ديوان جلالة الملك ويقول:

«من فؤاد ملك مصر، بعناية الله تعالى

إلى حضرة صاحب السعادة «محمد طلعت حرب باشا» نائب رئيس مجلس إدارة بنك مصر لما تقوم به من جليل الأعمال، وما عهدناه فيك من الإخلاص والمناقب الحميدة قررنا منحك رتبة الباشا وما يتبعها من مزايا وحقوق، وأمرنا بصدور هذا التشريف بالساعة والتاريخ.

تحريرا، سرايا عابدين الملكية بالقاهرة فى اليوم الخامس من شهر ذى الحجة لسنة ألف وثلاثمائة وتسع وأربعين من هجرة سيد المرسلين».

وللحكاية بقية!