الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

من ينتصر فى معركة كورونا؟

ريشة: طارق الجفاوى
ريشة: طارق الجفاوى

فى الوقت الذى تحلم فيه واشنطن بمحاسبة بكين «قانونيًا» وتعاقبها سياسيًا بداعى تسترها على فيروس كورونا فى بداية ظهوره، وسماحها بسفر الملايين «الحاملين للعدوى» تسعى بكين إلى قلب الطاولة بالكامل على الولايات المتحدة الأمريكية لتخرج بكل المكاسب السياسية الممكنة من «معركة كورونا» وتنهى سيطرة القطب الواحد التى دامت كثيرًا، فى الوقت الذى ترك فيه الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، درة تاج الإمبراطورية الأمريكية مدينة نيويورك وحدها فى مواجهة الفيروس المميت.



6.5 تريليون دولار تعويض 

فى مارس الماضى دعت كتابات صحفية محسوبة على الإدارة الأمريكية إلى مقاضاة الصين بل ومطالبتها بتعويضات تقدر بتريليونات من الدولارات، بداعى ما وصفوه بـ«التستر المتعمد» على ظهور الفيروس فى ووهان، منتصف ديسمبر الماضى، واعتقال الشرطة الصينية للطبيب لى وينليانغ، الذى عبر عن قلقه من الفيروس الغامض يوم 30 ديسمبر الماضى، فى إحدى غرف الدردشة على الإنترنت، وتم اعتقاله فى نفس الليلة، وأجبرته الشرطة على توقيع اعتراف بأنه ينشر ادعاءات وشائعات تضر بسلامة البلاد، وقدم اعتذارًا علنيًا ووعد بعدم تكرار ذلك فى 3  يناير حيث نجح النظام الشيوعى فى إخراسه للأبد عقب وفاته فى 7 فبراير فى مستشفى ووهان المركزى، بعد إصابته بالفيروس، وتؤكد أن الصين بتسترها على تفشى الفيروس فى بدايته أسهمت فى انتشاره خارج حدودها، خسارة مليارات الدولارات عقب إصابة العالم بالذعر..  وبالفعل أعد دبلوماسى بريطانى يعمل فى الصين، وهو «ماثيو هندرسون» مدير مركز دراسات آسيا، تقريرًا يقول إنه تجب مقاضاة الصين ومطالبتها بتعويض قدره 6.5 تريليون دولار مبدئيًا لنفس السبب، وهو التستر على تفشى الفيروس، فى وقت كان يمكن فيه محاصرته والقضاء عليه قبل أن يتحول إلى جائحة عالمية بسبب الملايين الذين غادروا ووهان، فى الفترة من منتصف ديسمبر وحتى 23 يناير عندما اتخذت الصين قرار بإغلاق المدينة.. ويستند « هندرسون» إلى المادتين 6 و7 من قانون الصحة الدولية، وهى معاهدة دولية وقعت عليها بكين، وملزمة قانونيًا بالحفاظ على بنودها، وتنص الأولى على أن تلتزم كل دولة بالشفافية فى التعامل مع المعلومات والحقائق المرتبطة بالأمراض المعدية والأوبئة بشكل فورى ومباشر، وأن تًشارك باقى دول العالم كل ما يتوفر لديها من معلومات فى هذا الشأن، وتلزم الثانية كل دولة بإبلاغ منظمة الصحة العالمية بشكل فورى عن ظهور أى مرض معدٍ داخل حدودها، وأن تسهل عمل منسوبى المنظمة فى جهود استكشاف واحتواء العدوى..  وواقعيًا يستحيل ذلك لأن هناك عائقًا يتمثل فى «بند السيادة» فى القانون الدولى،وهو ينص على أنه «لا يجوز محاكمة أى دولة أمام المحكمة الجنائية الدولية أو أى هيئة دولية أخرى إلا بموافقة الدولة المطلوب محاكمتها»، وبالطبع الصين لن توافق على أن تتم محاكمتها دوليًا، وكذلك مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لا يمكنه إدانة الصين، فهى تتمتع بحق الفيتو شأنها شأن روسيا وبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة (الأعضاء الخمسة الدائمين).. وليس سرًا أن الصين تجاهلت قرارًا  أصدرته محكمة التحكيم الدائمة التابعة للأمم المتحدة بأن قيامها ببناء جزر صناعية فى بحر الصين الجنوبى هو انتهاك للقانون الدولى ولحقوق الفلبين السيادية بأعمالها وذلك فى يوليو 2016، بل وأعلنت بكين آنذاك أن قواتها المسلحة ستحمى سيادتها الوطنية ومصالحها البحرية.. والبديل الأمريكى هو قيام واشنطن وحلفاؤها بتجميد أصول وأموال الشركات الصينية المملوكة للدولة، لإجبار بكين على دفع تعويضات، وفى حال لجأت الصين لمقاضاة تلك الدول يتم الاحتكام للقانون الدولى فيما يخص الوباء ومسؤولية الصين عنه، وهذا السيناريو هو خطوة فى سلسلة من الإجراءات تشمل اتخاذ إجراءات قانونية أمام محاكم أمريكية، تمكن الإدارة من إسقاط الديون الصينية لحكومات دول فى إفريقيا وشرق أوروبا وأمريكا اللاتينية، فى إطار مبادرة الحزام والطريق التى يستغلها الرئيس شى بين جينغ لفرض نفوذ الصين حول العالم.

القوة الجيوسياسية 

لاشك أن جائحة كوفيد-19 ستكشف عن الضغوط ونقاط القوة الجيوسياسية العميقة التى تشكل النظام العالمى، فالأزمة جاءت فى خضم توترات بين الولايات المتحدة والصين التى كانت تختبر حدود العولمة الأمريكية، ليبقى السؤال من ينتصر ويفرض شروطه على الآخر، وهل ستؤدى الأزمة لتسريع صعود الصين «الشيوعى» أم تخسر بكين كل شىء لتسقط أمام الهيمنة الأمريكية؟.. وقبل كورونا كانت الصين تعانى من احتجاجات هونج كونج وتجدد أزمته مع تايون وتسعى لإعادة تشكيل اقتصادها ناهيك عن ضغط واشنطن على جميع المستويات، لكن الآن تسعى بكين لقلب الطاولة استنادًا إلى «توحيد البلاد» تحت لواء القومية الشيوعية.. اقتصاديًا شهدت الصين تدهورًا حقيقيًا فى النمو الاقتصادى من الربع الأول من العام والمشكلات يتوقع استمرارها نحو عام أو أكثر، وثمة إشكالية تتعلق بنطاق عودة مبادرة «الحزام والطريق» التى أطلقتها الصين إلى العمل، وربما تقلص بكين هذه المشاريع الخارجية إذا رأت أنها بحاجة إلى التركيز على الاستهلاك والنشاط الاقتصادى الداخليين،  وبالفعل كانت الصين قبل ظهور «كوفيد 19» تعيد تقييم العديد من مشاريع المبادرة بالنظر إلى تكلفتها، لكنها قد تتجاهل ذلك سعيًا إلى محاولتها تشكيل الديناميات السياسية والأمنية لجيرانها وشركائها وهى من  المكاسب قصيرة الأجل لقوة الصين الناعمة الناعمة لأنها ترسل الأطباء والمستلزمات الطبية إلى بلدان أخرى.. كما أدت محاولات الولايات المتحدة للحد من نشر تقنيات «هواوى» الصينية فى تطورات البنية التحتية العالمية لشبكة الجيل الخامس إلى توتر العلاقات بين واشنطن وبكين، وبين الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها أيضًا، والآن كشفت تدابير الحجر الصحى المصاحب لأزمة «كوفيد 19»  الضعف الهيكلى للبنية التحتية للاتصالات فى العديد من البلدان والمجتمعات، ناهيك عن أزمة أخطر كثيرًا وهى «استخدام بعض الحكومية» للمراقبة للتبع انتشار الفيروس، وهو ما يضرب خصوصية المواطنين فى مقتل، وهو ما يثير إشكالية أخرى تتعلق بـ«السيادة السيبرانية» الوطنية، وفى هذا الصدد يتوقع خبراء أمريكون زيادة الاهتمام بتمويل وإدارة البنية التحتية للاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، وزيادة التمويل الوطني والسيطرة على الشبكات، فالفيروس قد يسرع من التحرك نحو مزيد من التشرذم بدلاً من مفهوم «الكل فى واحد»..   ولاشك أن جائحة كوفيد-19 أحدثت أثرًا على «سلاسل التوريد المعولمة» وقبل تفشى الفيروس كانت سلاسل التوريد العالمية تواجه تحديات من الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، ومن القومية الاقتصادية المتزايدة فى العالم، وتسببت التوترات التجارية بالإضافة إلى ارتفاع تكاليف العمالة فى الصين فى بدء تحول بعض الصناعات إلى فيتنام وأماكن أخرى فى جنوب شرق آسيا، كما كان التحضير لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى وإعادة تقييم سلاسل التوريد بعد مراجعة الولايات المتحدة لاتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (NAFTA) والترتيبات التجارية فى أماكن أخرى يؤثران على القرارات المحيطة بسلاسل التوريد أيضًا.. وسريعًا تعاملت الشركات مع أزمة «مشكلات التوريد» فالفيروس اضطراب قصير المدى للنشاط الاقتصادى وبالفعل نقلت بعض الشركات التوريدات سريعًا خارج الصين فى الأيام الأولى من الحجر الصحى، فى حين أعادت شركات أخرى تجهيز مصانعها أو اعتمدت على فائض مخزونها، لكن فى المطلق تسعى الدول لضمان مرونة سلاسل توريدها لتنأى بنفسها عن الصدمات العالمية وهو ما حدث عندما قاطعت الصين بشكل غير رسمى لكوريا الجنوبية بسبب نشرها صواريخ  منظومة الدفاع الجوى للارتفاعات العالية (ثاد)، وكارثة فوكوشيما.. وفى الوقت الذى تحتاج الصين إلى جعل انفاقها الداخلى أولوية -للأسباب التى سبق الإشارة إليها- تتوقع بعض الدول توجيه دفتها إلى بكين، فالاضطرابات السياسية فى إيران قد تضاهى قدرتها على زعزعة الاستقرار الإقليمى تعزيز سيطرة الحكومة الإيرانية، أما البلدان التى تعتمد بشكل أساسى على الدعم الخارجى مثل دول جزر المحيط الهادى العالقة بين مطرقة أمريكا واستراليا وسندان الصين، فقد تلقت صفقة من الفيروس  حيث انهار قطاع السياحة علاوة على تقلّص شحن البضائع وتضاؤل الإمدادات.

درة تاج أمريكا 

على الضفة الأخرى للنهر يثير مراقبون تساؤلات عدة بشأن إمكانية انهيار «الفيدرالية الأمريكية» أمام فيروس لا يرى بالعين المجردة وهى أغنى وأقوى وأكثر دول العالم تحضرًا خصوصًا بعد ترك رئيسها ترامب درة تاج الإمبراطورية الأمريكية مدينة نيويورك وحدها فى مواجهة الفيروس المميت، ناهيك أنها أصبحت أكثر دول العالم من حيث عدد الإصابات بالفيروس، وعدد الوفيات يتزايد، وكأن الولايات المتحدة تحولت إلى  «رجل العالم المريض»  وسط خلافات بين الرئيس ترامب وأركان إدارته والمسؤولين عن القطاع الطبى وحكام الولايات وعمد المدن، خاصة عمدة مدينة نيويورك.. وفى وقت كان ترامب يقلل من خطورة المرض ويقول إنه مجرد دور إنفلونزا وإن الأطباء يبالغون، كان عمدة نيويورك يطالب النجدة من إدارة ترامب بلا مجيب، والأمر تجاوز أن تكون نيويورك بؤرة للمرض وإنما باتت بؤرة الخلاف حول المسؤول عن الكارثة، بدا واضحًا أن الخلاف حول نيويورك أكبر من مجرد خلاف سياسى تقليدى بين الجمهوريين والديمقراطيين، بل أصبح يعكس بشكل أو بآخر الموقف السلبى للتيار المحافظ من الجمهوريين من المدينة التى تعد معقل الديمقراطيين ومنارة الليبرالية فى أمريكا.. والحقيقة أن الخلاف بين السلطة المركزية وحكام الولايات أمر قديم فى التاريخ الأمريكى نشأ مع نشأة البلاد ذاتها، وعلى مدار التاريخ، كانت السلطة المركزية تزيد من قوتها فى نهاية أغلب هذه الصراعات، وبينما شكّل النظام الفيدرالى الأمريكى نموذجًا يحتذى لكثير من دول العالم على مدار العقود، فقد ظهرت عوراته فى هذه الأزمة بشكل لافت، فى ظل نجاح دول أخرى فى التعامل بشكل أفضل مع جائحة كورونا أبرزها السلطوية الروسية والشيوعية الصينية.