الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
«طلعت حرب» يكتب لروزاليوسف!

«طلعت حرب» يكتب لروزاليوسف!

لم يكن «طلعت حرب» من هواة الإدلاء بالأحاديث الصحفية، بل كان يفضل دائمًا أن يكتب بنفسه ما يريد أن يقوله بعد أن لاحظ أن البعض من الصحفيين لا يلتزم بنشر كلامه كما هو، أو يتم تحريف بعض وقائعه!



كان «طلعت حرب» يؤمن برسالة الصحافة وخطورتها وتأثيرها على القراء والرأى العام فى ذلك الوقت، ومن هنا كان حرصه على تطبيق شعاره «من حسب كسب» فى علاقته بالصحافة!

 

وفى كل مرة يذهب أحد الصحفيين لإجراء حوار مع «طلعت حرب»، كان يمسك بالقلم الرصاص ويدون على ورقة أمامه النقاط التى يطلب منه الصحفى أن يجيب عليها، ثم يقول للمحرر: اترك لى وقتًا أفكر فيه وإنى أعدك بأن أكتب جوابى بنفسى فانتظرنى إلى وقت قريب!

وهو نفس ما حدث بالضبط مع محرر مجلة «روزاليوسف» فى صيف سنة 1939، وكالعادة قام «طلعت حرب» بكتابة ما يود كتابته وقد نشرته المجلة تحت عنوان: «عندما شرعت فى إنشاء بنك مصر» بقلم صاحب السعادة «طلعت حرب باشا».

فى البداية كتب المحرر يقول: «من الحديث المعاد أن نسوق الكلام عن بطل مصر الاقتصادى «طلعت حرب باشا» رجل العمل الصامت الذى أدى لوطنه ومواطنيه خدمات جليلة خالدة رفعت من شأن مصر وأطالت رقبة كل مصرى عدة أشبار.

وقد رأينا أن نقدم للقراء جملة وجيزة عما لقيه سعادته من العقبات عند اضطلاعه بإنشاء بنك مصر، فوجهنا إليه السؤال التالى:

من المعروف أن سعادتكم قد جاهدتم كثيرًا فى تأسيس «بنك مصر» ولاقيتم الصعاب الجمة فى إقناع أغنيائنا بالمساهمة فى هذا المشروع العظيم، فهل لكم أن تتفضلوا بإيضاح بعض ما لقيتموه من العقبات التى اعترضت طريقكم حتى يجد الشباب المتهافت على الوظائف الحكومية، فيما تسردونه حافزًا له على طرق أبواب الأعمال الحرة؟!»

••

وقد تفضّل سعادته - أى «طلعت حرب» - فرد علينا بالكلمة التالية:

«إذا تركنا المصاعب التى لاقيناها من بعض البيوت التجارية فلا يمكن إغفال مقدار ما عنيناه من جهد فى سبيل إقناع مواطنينا بالمساهمة فى هذا المشروع.

ولم نكن نتوقع - حين أخذنا على عاتقنا إنشاء بنك مصر - أن يكون السبيل إلى إخراج الفكرة مفروشًا بالزهور والرياحين، بل على العكس كنا على يقين من أن الطريق محفوف بالمصاعب والعقبات التى ليس من السهل اجتيازها.

ومبعث هذه المصاعب يرجع إلى نزعة دينية كان أصحابها يعتقدون أن استغلال الأموال فى البنوك يدخل فى «باب الربا» الذى هو رجس من عمل الشيطان.

وكان من الصعب جدا إقناع أصحاب هذه العقيدة بأن استثمار الأموال شىء، والربا شىء آخر!

ولا نريد أن نعرض للشكوك من بعض مواطنينا، الذين قد يجدون فيما نسرده على القراء مساسًا من بعيد أو من قريب بكبريائهم الوطنى وشعورهم القومى.

على أن هذا لا يحول دون الإشارة إلى حادث لا يحملنا على روايته إلا ما ينطوى عليه من الطرافة، وهذا الحادث يعرفه رئيس تحرير مجلة «روزاليوسف» حق المعرفة!

وتفصيل الحادث، أننى عندما أخذت على عاتقى تنفيذ مشروع «بنك مصر» وضعت قائمة بأسماء الموسرين الذين أعرفهم، وأعرف أنهم لن يتوانوا عن المساهمة فى المشروع، وعلى رأس القائمة صديق لى تقع أطيانه على مقربة من أطيانى فتوجهت إلى بلدته وقابلته فرحب بى كعادته، واحتفى بمقدمى حفاوة كبرى.

وكنت على يقين من سهولة مهمتى عند ذلك الصديق، وبعد تبادل العبارات المعتادة فاجأته بقولى:

ما رأيكم فى إنشاء بنك مصرى قومى يرفع من شأن مصر، ويعلى من قدر المصريين؟

فالتمعت عيناه، وأجاب:

- يالها من فكرة قيمة جدا، حبذا لو تم لنا ذلك!

وطفقت أحدثه عن المشروع حديثا وافيا، وأشرح له ما فيه من المزايا التى تعود على المساهمين فيه.

ولا أنكر أننى وجدت من صديقى آذنًا صاغية، وموافقة على كل ما أدليت به بصدد المشروع.. ولكن عندما عرجت بحديثى على الممولين المصريين الذين يكنزون أموالهم ويعطلونها، وما أنتظره من مساهمة كل منهم ببضعة آلاف رأيت سحابة من الملل تخيّم على وجهه، فما أن وصلت إليه الهدف الذى أرمى إليه حتى اختفت نظرات الاستحسان التى كان يتابع بها حديثى وقال:

- هذا حسن.. ولكن كيف السبيل إلى المساهمة فى مثل هذا المشروع وقد حرم الله الربا؟

فبادرت بإقناعه بأن استثمار الأموال فى البنوك ليس من الربا فى شىء، بل هو كسب حلال ومشروع. وكنت قد أعددت فتاوى من كبار رجال الشرع، فلما رددتها عليه، أظهر اقتناعا بحديثى ثم نهض وغاب عنى برهة وعاد وفى يده مبلغ أربعين جنيهًا ناولنى إياها قائلاً:

- أنا ما أقدرش أكسفك.. أدى أربعين جنيه مانيش عايزها.. وده عشان خاطرك!

واستولت علىّ الدهشة لهذا العرض الغريب، ولم أدر هل كان صديقى يتوهم أن المشروع حفلة تمثيلية لإعانة أسرة أخنى عليها الدهر، أم أنه أشفق على ما بذلته من جهد معه أن يضيع سدى فهو يعوضنى بهذا المبلغ عن الجهد المبذول! أم أنه كان يقدمه لى بمثابة «أجرة العربية»!

هذه حادثة كانت تتكرر مثنى وثلاث أو أربع مرات فى اليوم، لأن صديقى هذا كان يمثل غالبية كبار المزارعين الذين كنت أعتمد عليهم كثيرا فى تأسيس «بنك مصر».

على أن التوفيق الذى أفاضه الله علينا وهذا النجاح الذى لقيناه، والعطف الذى آزرتنا به الأمة جميعًا، كل أولئك قد أنسانا كل ما لقيناه من ألوان المتاعب والمشقات.

••

ومضى «طلعت حرب» يقول فى مقاله الذى كتبه لروزاليوسف:

«أما ما تطلبونه فى سؤالكم من أمثلة توجه الشباب نحو الأعمال الحرة فليس هناك مثل أروع من مثل بنك مصر، ونجاحه الذى يتحدث به الناس فى كل مكان وفى كل قرية.

وأكبر ما يحفز الشباب إلى طريق الأعمال الحرة، هذه «التخمة» التى تعانيها وظائف الحكومة اليوم، والتى تصد الشباب عن وظائف الحكومة وتوحى له أن «الميرى وترابه» يعز الآن على طلابه!

ولعل الذى يفوت الشباب أن يعلمه هو أن خدمة الحكومة، لا تأتى عن طريق العمل فى دواوين الحكومة، بل إن كل عمل يؤديه أحد الأفراد، فيه خدمة للحكومة، فالبائع الصغير - مثلاً - أياً كان ما يبيعه - يخدم نفسه ويخدم حكومته، والخادم فى المقاهى والفنادق يخدم نفسه وحكومته، وكل ذى عمل شريف - مهما كانت قيمته وضؤلت مكانته - يخدم نفسه وحكومته.

ولئن كانت الوظيفة الحكومية قد شغفت الشباب فى الماضى، فإنها اليوم لم تعد كذلك.

ونحن نهيب بولاة الأمور أن يعيدوا النظر فى الأسباب التى دفعت إلى تهافت الشباب على الوظائف الحكومية، وتهيب بالشباب فى الوقت نفسه أن يولوا وجوههم شطر الأعمال الحرة الواسعة المدى، المفعمة بالآمال بغض الطرف عن شهادات الدبلوم والدكتوراه».

وإنى لأعتقد أن الشباب المصرى قادر بذكائه وهمته، أن يضرب الأمثال الصالحة لنفسه ولسواه حين يتخذ من تواضعه وصبره وإخلاصه واستقامته أسلحة نضال يكافح بها فى معترك الحياة مع الإيمان القوى فى سبيل العيش الشريف وفى سبيل خدمة وطنه مصر أم الجميع».

«طلعت حرب»

••

لقد كانت السيدة «روزاليوسف» تؤمن بأنه لم يكن عندها رجل يستحق أن يؤخذ منه حديث أو يذكر عنه حديث غير «طلعت حرب» وتصفه بقولها:

«أعظم رجل فى مصر».

وللحكاية بقية.