الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

الرقم

ريشة الفنان: عفت حسنى
ريشة الفنان: عفت حسنى

 الغرابة والجحود يقودان طبيعة مسيرة الإنسان على هذه الأرض.. دائما يتناسى أم ينسى توأم دربه، هما ولدا فى نفس النفس، تشاركا سويا صرخات البكاء الأولى، ييتباعد الإنسان ويستمرئ الجحود فى أيامه، يظل ابن النفس الأول وصرخات الميلاد وفيًا لتوأمه الإنسان لا يفارقه، يتقدم أمامه، يسير خلفه، يحلق فوقه، يقبع تحته، يلازمه عن يمينه ويساره، يرافقه فى كل أحزانه وأفراحه، يراقبه فى هدوء يصعد ذروة المجد، لا يشمت وهو يراه يدورفى دوامات الفشل.. يقف وحيدًا، لا يضيق بتناسى توأمه لوجوده..لا ييأس منه.. ينتظره بلا ملل 



 

يسعى الإنسان فيهرول فى دنياه، يرهق توأمه معه فى مطاردة ما يظنه ثابتًا وباقيًا، فى بعض الأحيان يشير له فى خجل ينبهه لوجوده.. يمر الإنسان على الإشارات بتعالٍ ساخرا من هذا الأبله الذى يرجو لقاء مع سيد الأرض، يتعجب السيد أحيانا من يقين هذا الكائن وثباته فى ملاحقته، تنتهى دوائر السعى فيمد الإنسان يده فى نهم ليحصد نتاج سعيه فلا تجنى يده إلا رمال السكون، فى هذا اليوم يتلفت السيد خائفًا وسط متاهة حقول الصمت الأبدى، يرى توأمه قادما مبتسما غير غاضب، يذكره فى تسامح باللقاء الأول عند صرخات الضعف ويضحك من إنكاره لوجوده وتعاليه عليه عندما كان يشير إليه وهو يدور فى دوائر سعيه.. يخجل الإنسان من فعله وتعاليه تجاه أخيه، يتأمله توأمه فى ود مشفقا عليه، يمسك بيده ويصطحب الموت أخاه الإنسان إلى مملكة اللا عودة.. 

يبدو أننا أنكرنا كثيرا وتعالينا أكثر على الأخ الطيب الودود فضاق بنا فلم يعد يمهلنا وسلمنا إلى عدو بلا قلب أو لعله هو نفس الأخ الطيب ولكنه تعلم منا النهم والجشع وحفظ الدرس جيدا فخرج يحصد فينا ولا يرانا سوى أرقام وبدلا من الممالك الرحبة عاد بخزائن حديدية يكدس فيها أرباحه اليومية ولم يعد يشفق علينا، تركنا للوباء فأصبحنا 1523، 2436، 3789...مجرد أرقام قد تكون أثمانًا لسلع تباع فى سوبر ماركت أو مسافات بالكيلو متر بين مدن وبلدان أو أوزان لمنتجات تم وضعها فوق الميزان، يلتقى الرقم والوباء فى ساعة معلومة فنصبح نحن الثمن والمسافة والوزن مجرد رقم يتغير بالزيادة والنقصان 

ينزع الوباء عن الإنسان إنسانيته ويكشط روحه يخليها من الحياة والذكريات ولحظات السعادة والألم، الترقب، الخوف، الشجاعة، الكرم البخل، يصفى الإنسان من نفسه يشيعه وحيدا إلى ثلاجة الرقم. تندثر الأسماء وتصبح بلا معنى يأكلها الرقم الجشع لم يعد هناك معنى لألبير، هيلجا، على، وانج، يصبح الاسم إهانة نخجل منها أمام سطوة وطغيان الرقم، يرى الوباء فى الأسماء بكل ما تحمله من حيوات مجرد سماد ينثره فى أرض الرقم الجرداء الموحشة، يحاول أن يخصبها ليحصد من ورائها غذاء يطعم به أنثى عنكبوت شرهة اسمها الإحصاء فهى فى كل يوم تريد المزيد من زرع الأرقام والأسماء الطيبة هى سماد هذا الزرع.

لم يسر الوباء يوما مع الاسم فى لحظاته الأولى إلى المدرسة، لم يسمع ضحكات الاسم رضيعا وهو يرى وجوها طيبة تحيط به ويشير بإصبعه الصغيرالى وجه أمه ووجه أبيه وبقية العائلة المتحلقة حوله لم يتلصص على الاسم وهو يهمس مستغفرا من ذنبه الأول، الوباء أسود بلا قلب لا يفهم أن الاسم له قلب يوما ما كبر، أحب ثم تلاقى الحبيبان وبعدها افترقا بين سعادة اللقاء ولوعة الفراق عاش الاسم على الأرض حياة وملايين الأسماء عاشت حيوات مثله. 

ينظر الوباء إلينا ببرود لا يرى فينا المدرسة والعائلة والذنب والحب يرانا فقط أرقاما يريد حصدها لإطعام عنكبوته الإحصائى المدلل، يرتفع مؤشر العداد الرقمى فيشعر الوباء بالاطمئنان على عنكبوته فقد أطعمه اليوم المزيد والمزيد منا.

يخشى الوباء على عنكوبته من عسر الهضم لا يريد إطعامه طعاما ثقيلا، يجلس على ناصية شارع النهاية فوق تلة الخراب ممسكا بسكين ضخم، يعمل فى جد دون كلل، تمر أمام سكينه جموع منا لاهية فى حياتها لا تدرى بوجوده، 

 يمد ذراعه الضخم القاسى وبكفه المتسع للجميع يقبض على عدد منا ويلقى بحصد قبضته على التلة بجواره، نصرخ، نتألم، نبكى، نتنفس بصعوبة من الخوف، لا يسمعنا أو يرانا فهو مشغول، يشحذ سكينه يزيد من حدته، يلتقف إنسان من جانبه على التلة وبسكينه الحاد يخليه بهمة من الزوائد التى يكرهها ويراها مزعجة بلا فائدة، الذكريات، الحياة، المشاعر، الموهبة، الجمال، الكرامة، العطف، العقل، المعرفة رغم نزف الضحية المستمر فى يده لا يتوقف حتى يخليها من الإنسان. 

يتأمل الوباء عمله النازف والمتقن فى رتابة دون لذة الانتصار أو خيبة الفشل فهو ليس مثلنا بل مجرد آلة حصد تطعم عنكبوتا إحصائيا شرها يلتفت لعنكبوته المدلل فاتحا فمه المخيف كاشفا عن أسنان حادة مصفرة معتبرا بغبائه إنها ابتسامة يتمتم فى فحيح غامض غير مفهوم مقلبا بكفه الضخم فى ضحاياه النازفين المتناثرة حولهم أشلاء أرواحهم وإنسانيتهم ثم يواصل عمله بجوار التلة بركة بها سائل آسن غير معروف هويته يغسل فيها حصاده اليومى من بقايا النزف والإنسانية، يلقيه على أرض صخرية جرداء ويتركه يوما أو يومين حتى يجف تماما من الروح، من حين إلى آخر يقلب فى صنعة يده، يزفر فى ثقة.. الآن بعد عمل شاق ومرهق وجفاف تام أصبح الحصاد أرقاما مجردة يمكن لعنكبوته أن يلتهمها فى يسر وسهولة دون أن تسبب له أدنى ألم أثناء الهضم 

تتحسر الأسماء على زمن أخوة الموت الطيب الودود الخجول بعد أن ذاقت إهانة الرقم على يد الوباء وعنكبوته الذى لايشبع، كان الأخ الطيب يراعى حق الأخوة فيترك للاسم الذكريات، لايطمع فى لحظة وداع بين اسمين حبيبين، لا يعرف البخل، يمنحنا فى سعة الطقوس والعادات لنعيش مع الاسم الراحل ساعات وأيام فلا يستعجلنا بل ينتظر حتى ننتهى تماما ثم يلقى السلام ويرحل مصطحبا الاسم، يترك للاسم أثرًا ولو صغيرًا على الأرض التى عاش عليها، شاهد قبر، لافتة معلقة، نعى وصورة فى جريدة، كان يمنحنا هذا الطيب الودود كل ذلك ثم فى النهاية نتعالى عليه.

جاء الوباء صانع الأرقام وعنكبوته الشره ليسخر من كل هذا ويرى أن هذه الطيبة والود بلاهة ومضيعة للوقت فهو لا يعرف الطقوس والعادات وصناعة الأرقام لاتحتاج إلى شاهد أو لافتة أو صورة ويكفى ما أعطانا الأخ الطيب من سعة طوال مائة عام غاب عنا فيها وحان الآن وقت تعويض الخسائر والأهم الانتقام. 

ذاق الوباء مرارة الهزيمة على يد الأسماء طوال قرن، يبدأ فى صناعة أرقامه ويتصور أن الأيام السوداء ستعود لكن الأسماء توجه له ضربة الهزيمة فيفر مذعورا ويترك الساحة للأخ الطيب، تعلم من هزائمه المتكررة صبر القناص على فريسته والخداع كانت خدعته بسيطة أن يجعلنا ننساه ونألف الأخ الطيب وفى اللحظة التى فقدنا فيها الذاكرة تجاهه أطلق رصاصته القاتلة واستحضر من أزمان غابرة الرقم المهين ليطعم عنكبوته الشره على حساب الأسماء.