الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

رياح الخماسين تعبُر الأراضى المقدسة

ريشة: مها أبوعمارة
ريشة: مها أبوعمارة

عندما اطلعت على صورة الكعبة المشرفة وقد تم إخلاؤها من الطائفين والركع السجود، كإجراء احترازى ضد «جائحة كورونا»، انتابتنى غصة فى الحلق، وانقبض القلب حزنًا، ليس لمجرد الإغلاق فى حد ذاته، فكم أغلقت من قبل؛ على يد أبرهة الحبشى فى عام الفيل، وبتعليمات القرامطة لعشر سنوات كاملة، وبفعل جريمة جهيمان العتيبى نوفمبر 1979.. لا تشغلنى الأماكن كثيرا، فقد قال الله فى محكم آياته «وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ» صدق الله العظيم.. إغلاق الكعبة أو فتحها لا علاقة له بقدسيتها، ولا برمزيتها «فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ» صدق الله العظيم..



 ما أزعجنى حقيقة أننى رأيت فى إخلائها تتويجًا لتحديات وضغوط عديدة، تجمعت فى موسم خماسينى عاصف، ضد الشقيقة السعودية، التى تمثل أحد الأضلاع الرئيسية لمثلث الاستقرار والتوازن فى المنطقة «أبوظبى، الرياض، القاهرة».. ورغم ضخامة التحديات كلى ثقة، فى أن الله الذى بارك هذه الأرض، قادر على أن يزيح من وجهها كل مايهددها من مخاطر. 

1. فايروس «كورونا»

أخطر الضغوط التى تتعرض لها السعودية هو ما تسببه «كورونا» من تداعيات، الملك سلمان وصف الوضع بـ«المرحلة الصعبة»، وحذر من أن المرحلة المقبلة ستكون «أكثر صعوبة».. الوباء فرض على المملكة اتخاذ حزمة إجراءات، أسوة بغيرها من دول العالم، للحد من تفشيه، ما فرض الإغلاق، وتعليق الأنشطة الاقتصادية والتجارية، ومنع التجول.. وهى إجراءات تعنى فى مجموعها الانكماش الاقتصادى، وذلك محور الأزمة.. رغم ذلك فإن ترؤس المملكة للقمة الاستثنائية الافتراضية لقادة مجموعة العشرين عكس ثقلها الدولى، ودورها القيادى فى حشد إجراءات مواجهة الوباء. المملكة اتخذت مجموعة تدابير عاجلة لدعم الأنشطة الاقتصادية فى مواجهة التداعيات الاقتصادية للوباء، تضمنت 120 مليار ريال «32 مليار دولار» لدعم الأنشطة الاقتصادية والقطاع الخاص، و50 مليارًا «13.3 مليار دولار» للبنوك والمؤسسات المالية والمشروعات الصغيرة والمتوسطة، وتخصيص أموال إضافية للقطاع الصحى وفقًا للحاجة، وتعليق تحصيل رسوم الجمارك على الواردات لمدة 30 يومًا، فضلا عن تسهيلات لمالكى الشركات.. ناهيك عن توفير أى اعتمادات إضافية مطلوبة لقطاع الصحة.

وعقب هبوط أسعار النفط إلى أدنى مستوياته فى 17 عامًا، خفضت المملكة ميزانيتها بنسبة 5 %، أى قرابة 50 مليار ريال، وذلك لمواجهة الانخفاض الحاد فى الإيرادات وتوقعات النمو.. استمرار المخاوف من تأثير تفشى «كورونا» على اقتصاديات العالم أدى إلى ارتفاع تكلفة تأمين التقاعس عن الدفع على ديون السعودية.. شركات الطيران السعودية أسوة بنظيراتها الخليجية تواجه أزمة سيولة، وقد تخسر 16 مليون راكب و3.1 مليار دولار من الإيرادات الأساسية وما يزيد على 140 ألف وظيفة.. العام القادم فى المملكة قد يكون صعبًا، إلا أن احتياطياتها «502 مليار دولار» تظل صمام الأمان فى مواجهة التقلبات الطارئة.

2. إنهيار أسعار النفط

السعودية طلبت من تحالف «أوبك+» تخفيض عمليات ضخ النفط للأسواق بـ3.6 مليون برميل/ يوم بدلاً من بـ2.1 مليون برميل، حفاظًا على سعره فى مواجهة نقص الطلب جراء «كورونا».. روسيا رفضت، معتبرة أن هذا الإجراء يصب فى صالح منتجى النفط الصخرى الأمريكى، ودعت الدول المنتجة إلى الإنتاج كما يحلو لها اعتبارًا من أول أبريل، ما فكك التحالف.. هذا التطور تزامن مع إجراءات الإغلاق والتقييد لمواجهة «كورونا»؛ كتعليق رحلات الطيران، وفرض العمل عن بعد، وتعطيل المصانع، وإغلاق الحدود، ما أدى إلى تراجع الطلب على الطاقة، وانهيار أسعار النفط إلى النصف.. رغم ذلك تعتزم المملكة، أكبر منتج فى أوبك، وروسيا ثانى أكبر مصدر للخام، الضخ بأقصى طاقة اعتبارًا من أول أبريل، ما قد يهبط بالأسعار لـ20 دولارًا، وهو مستوى لم يُسجَّل منذ حرب الأسعار بين السعودية وفنزويلا فى الفترة بين 1997 و1999.

أسهم «أرامكو» تراجعت بنسبة 29 % نتيجة لانعكاسات أزمة «كورونا»، وانخفضت القيمة السوقية للشركة لتصبح 1،44 تريليون دولار بعد أن كانت قد تجاوزت 2 تريليون.. الشركة تعتزم سحب 300 ألف برميل/ يوم من مخزوناتها النفطية للوصول إلى مستوى قياسى للإمدادات أبريل المقبل، وتستعد لتقديم خصومات للمستهلكين فى أوروبا وآسيا، ما يعكس ضراوة المنافسة، لكن هذه الإجراءات ذات طابع مؤقت، لأنها تعتمد على الاستعانة بالأرصدة الاحتياطية، وليس على رفع الطاقة الإنتاجية، ما يعنى أن المملكة لا يمكن أن تستمر كذلك لمدة طويلة لأنها أولا: تحد من قدرة الشركة على مواجهة الظروف الطارئة، على نحو ما تم بعد الهجوم الإيرانى على منشآتها النفطية، وانخفاض الإنتاج إلى النصف تقريبًا سبتمبر الماضى، فلولا الاحتياطى ما قدر لها عبور الأزمة دون اختلال فى تلبية حاجة الاستهلاك المحلى، أو فى الوفاء بالالتزامات التصديرية، وثانيا: لأن استئجار المملكة لأسطول ضخم من الناقلات العملاقة لإغراق الأسواق رفع قيمتها الإيجارية، ما ضاعف تكلفة الشحن مرتين ونصف، وثالثا: لاستمرار تراجع الطلب نتيجة التوسع فى الإغلاق دوليا ومحليا.  

انهيار أسعار النفط يسمح لترامب بالوفاء بتعهده الخاص بملء الاحتياطى البترولى الاستراتيجى «لآخره»، لكنه أدى إلى انخفاض أسعار أسهم شركات الطاقة الأمريكية بنسبة 24 %، وخسرت قيمتها السوقية 196 مليار دولار خلال أسبوع واحد، كما أنه يضع أمريكا أمام اختيار بالغ الصعوبة؛ لأن إغراق الأسواق وانهيار الأسعار بقدر ما يحقق رغبة المستهلك فى الحصول على الطاقة بسعر منخفض، إلا أن تدنى السعر عن 50 دولارًا يوقف إنتاج النفط والغاز الصخريين، لتكلفتهما العالية، ويطيح بالولايات المتحدة كمنتج للنفط، مما يفسر طلب مايك بومبيو وزير الخارجية الأمريكى من ولى العهد السعودى «تهدئة» الأمور.. إلا أن الحقيقة أن أمريكا تحبذ تفكك «أوبك+» وترغب فى إنهاء اعتماد أوروبا على النفط الروسى، ولكن دون أن يؤدى ذلك إلى انهيار الأسعار والإطاحة بشركاتها، لذلك تتجه واشنطن نحو إقامة تحالف نفطى مع السعودية، للتحكم فى الأسواق، اعتمادًا على توسيع صلاحيات الحكومة الفدرالية فيما يتعلق باستخدام المخزون الوطنى الضخم من النفط والغاز، لأن إدارة الإنتاج تخضع للقطاع الخاص، ويفسر ذلك قيام وزير الطاقة الأمريكى بدفع فيكتوريا كوتس، كبيرة مستشاريه إلى الرياض لتولى منصب المنسق الدائم مع المملكة فى مجال السياسات النفطية، وتعزيز موقف واشنطن فى حرب الأسعار الراهنة.

ورغم ما تبديه روسيا من تماسك، إلا أن انهيار أسعار النفط يسبب لها أضرارًا بالغة، لأن ميزانيتها وضعت على أساس سعر البرميل 42 دولارًا، ما يعنى أن الانهيار الراهن فى الأسعار يؤدى إلى خلل بالغ فى مصادر تمويل الميزانية التى يمثل النفط والغاز قرابة 70 % منها، كما أن تزامن ذلك مع إجراءات التقييد والإغلاق المتعلقة بـ«كورونا»، يؤديان إلى تأثيرات إضافية على الاقتصاد، ربما تفوق تأثير كل ما فرضته واشنطن من عقوبات، ما يفسر انهيار سعر الروبل، وهو وضع لا يمكن احتماله، حتى لو استفادت روسيا من إزاحة منتجى النفط الصخرى الأمريكى من السوق، وخفض القدرة التنافسية للغاز المسال الأمريكى ذو التكلفة العالية مقارنة.. ويعنى ذلك أن التداعيات السلبية لانهيار الأسعار تطول الجميع، وأن روسيا والسعودية قد يتجهان نحو التوافق على إعادة التوازن إلى الأسواق، لأن الوضع لا يحتمل المزيد من الضغوط. 

3. الحرب على الفساد

النظام السعودى يُدرك أن الضغوط الخارجية التى يتعرض لها تفرض عليه تأمين جبهته الداخلية، وخاصة أن سياسة الانفتاح الفكرى والثقافى التى يتبعها تلقى عدم ارتياح من جانب متطرفى المؤسسة الدينية، أنصار الانغلاق، وهذا وضعهم فى نفس الخندق مع ممارسى الفساد الذين نهبوا المليارات، وتربحوا من وراء مناصبهم، لذلك وتحت وقع الأزمة الاقتصادية، استأنفت السلطات السعودية إجراءات تعقب المسئولين الحكوميين الفاسدين، استكمالا لما سبق أن اتخذته عام 2017، من إجراءات ضد عدد من المتهمين بالفساد والكسب غير المشروع.

المملكة بدأت فى تعديل قانون هيئة «نزاهة» لمكافحة الفساد، لتمنحها كل السلطات فى ملاحقة الأموال المنهوبة، والمطالبة باسترداد ما تم تهريبه للخارج، وحرصت على ضمان الحماية للمبلغين، واستعادة حقوق من تضرروا نتيجة للبلاغات، تشجيعًا على التعاون.. هيئة «نزاهة» كشفت فى مارس عن توليها التحقيق الإدارى مع 893 شخصًا، تم توقيف 298 شخصًا منهم، لتوجيه الاتهام إليهم فى قضايا فساد مالى وإدارى، كلهم مسئولون حكوميون، بينهم ضباط بالجيش والشرطة وقضاة، بعضهم متقاعدون، التهم الموجهة لهم تتضمن الرشوة والاختلاس وتبديد المال العام وسوء استغلال النفوذ، والحصول على مبالغ وصلت قيمتها نحو 101 مليون دولار.

4. فتح ملف خاشقجى

وسط كل هذه الضغوط التى تتعرض لها المملكة أصدرت النيابة العامة بمدينة اسطنبول التركية «25 مارس» لائحة اتهام بحق 20 مواطنًا سعوديًا بالتورط فى قضية مقتل الصحفى السعودى جمال خاشقجى 2 أكتوبر 2018، وتضمنت اللائحة طلب سجن نائب رئيس المخابرات السعودية السابق، كذا المستشار السابق بالديوان الملكى بتهمة التحریض على القتل العمد والتعذيب، والسجن المؤبد المشدد على 18 شخصًا لقيامهم بتنفيذ العملية.. أنيس كالامار محققة حقوق الإنسان المختصة بحالات الإعدام خارج القانون بالأمم المتحدة، والتى قادت تحقيقًا دوليًا فى مقتل خاشقجى، رحبت بعريضة الاتهام التركية!، ووصفتها بالمطلوبة لتحقيق التوازن فى مواجهة «منظومة العدالة السعودية»!، وذلك بالرغم من أن القضاء السعودى أصدر حكم الإعدام، الأشد غلظة، بحق خمسة أشخاص من المدانين فى القضية.

هذه الإجراءات تتم فى إطار الضغط على المملكة، بعضها تحركه أنقرة، بحكم دورها فى القضية، والآخر تحركه واشنطن بحكم تأثيرها على المنظمة الدولية.. دوافع أنقرة هى التوتر السياسى فى علاقاتها مع المملكة، خاصة بسبب قواعدها فى قطر.. أما واشنطن فتستهدف الضغط على المملكة، لضمان استمرارها فى تنسيق سياساتها النفطية معها، بعيدًا عن موسكو. اللهم احفظ أرض الحرمين الشريفين وأهلها.