الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

ديمقراطية تايوان تهزم «كورونا»

وعت درس «سارس» فى 2003 واستوعبت أخطاءها وقررت ألا تكرر أياً منها، وعندما تفشى فيروس «كورونا» كانت الدولة الأكثر استعدادًا «حكومة وشعبًا» لمواجهته، فيما فشلت إمبراطوريات عظمى فى التصدى له سواء فى المعسكر الشرقى أو الغربى. 



 

إنها «تايوان» التى تعتبرها منظمة الصحة العالمية «جزءًا من الصين» وبالفعل أصابها ما أصاب العالم من تفشى الوباء لكنها أحسنت توظيف مواردها وقدراتها واستطاعت إدارة التحديات الصعبة على صعيدى «التكنولوجيا والديمقراطية».

تايوان الصغيرة 

نظرياً يفترض أن الولايات المتحدة والصين الأكثر قدرة على التعامل مع المشكلات المعقدة باعتبارهما رائعتين فى «الذكاء الاصطناعى» إذ تمتلكان أكبر الحواسيب التى تعمل بأكثر برامج الذكاء الاصطناعى تقدّمًا، لكن تايوان الصغيرة قدّمت أداءً أفضل منها عبر «الاعتماد على المدخلات الاجتماعية فى التنسيق»، بدلًا من التعلّم الآلى وحده، أى إدخال ومشاركة الشعب والمجتمع المدنى والناشطين ليكونوا جزءًا من الحل وليس المشكلة».

وببساطة تمتلك واشنطن والصين رؤية تكنوقراطية «من أعلى إلى أسفل» لمستقبل ذكاء اصطناعى، فهناك نخبة رقيمة صغيرة داخل عدد قليل من المراكز التقنية تتحكم وتسيطر بعيدًا عن العامة وعن الأدوات التى يستخدمها الجمهور، هنا يسيطر الحزب الشيوعى وهناك تتحكم المراكز التقنية فى الساحل الغربى ورغم اختلاف النظم السياسية والاجتماعية بين الاثنين لكنهما يتشابهان فى شكل «إدارة الأزمة».  

لا شك أن الإدارة «الصينية» ومثيلتها الأمريكية كانت بارعة فى «تحليل البيانات» لكنها غضت الطرف عن «السياق الاجتماعى» والمحفزات لمشاركة المجتمع المدنى، وبالفعل تحركت النخب التقنية الأمريكية والصينية ببطء فى البداية داخل مجال معرفى جديد «الطب» ويمكن القول إنها أصيب بعمى «مؤقت» حتى بدأت تدارك الأمر بعد عدة أسابيع وليس أيامًا، فمثلا الطبيب الصيينى «لى وين ليانغ» الذى حذر من الفيروس وهاجمته الشرطة ووسائل الإعلام الصينية فى البداية عندما توفى صار «شهيدًا» أما أمريكا ففشلت هى الأخرى عندما نشرت لتطبيق فرز كوفيد- 19 من خلال منظمة Verily التابعة لشركة Alphabet، وادعت قدرات رهيبة للتطبيق ثبت لاحقًا أنه حيلة لجمع البيانات، ثم اكتشفت أنه يُغطى منطقة خليج سان فرانسيسكو فقط.

ماذا عن تايوان؟

ببساطة دمجت تايوان «المشاركة الرقمية» وتطوير أدوات المجتمع المدنى عبر نشر المشاركة فى التنمية الرقمية على نطاق واسع عبر المجتمع، وبالفعل تجنبت تايوان كلًا من مساوئ التكنوقراطية وأخطاء التكنولوجيا «التى تكون من أعلى إلى أسفل»، وحافظت فى الوقت نفسه على الثقة وتدفق البيانات من كلا الاتجاهين «حكومة وشعبًا» فى مواجهة الأزمة.

 وسبق لتايوان أن أشركت مواطنيها فى مواجهة تحديدات عديدة، مثلما حدث فى الانتخابات الرئاسية الأخيرة، على سبيل المثال، والتى مثلت أكبر انتصار للعالم الديمقراطى حتى الآن على التضليل الرقمى. ففى مواجهة أكبر كم من المعلومات المضللة فى العالم اعتمدت تايوان على المنابر التى أنشأها ويشغلها المواطنون، مدعومة بالجهود الطوعية لنقل الأخبار، للتحقق من المعلومات الكاذبة ودحضها، واستعان المواطنون أيضًا بتصميم تعاونى ونشر منهج جديد لمحو الأمية الإعلامية قبل الانتخابات، ليخسر المرشح الشعبوى المدعوم من بكين الانتخابات بفارق 20 نقطة.

السر فى الديمقراطية 

فى الصين أنكرت السلطات انتشار الفيروس لأسابيع ثم أقرت مجموعة من التدابير القسرية التى نجحت لحد كبير بعد ذلك، أما الولايات المتحدة فقد عانت من قلة الاستثمار فى قطاع الصحة العامة وهو ما جعلها غير متأهبة بشكل جيد لاستقبال هذا النوع من الطوارئ غير أنها اعتمدت لاحقًا سياسات الإبعاد الاجتماعى، فيما كان الاتحاد الأوروبى الأسوأ ففى إيطاليا مثلا بلغ المعدل الفردي أضعاف الصين، وحتى ألمانيا وصلت لنصف معدل الصين، والوضع أسوأ بلا شك فى الشرق الأوسط وعلى رأسه إيران التى كانت تهدد العالم كله بقوتها التى أسقطها فيروس لا يرى بالعين المجردة.

وبالرغم من أن تايوان أدت اختبارات أوسع مما أدت الولايات المتحدة، بلغ معدل الإصابات فى خُمس معدل الحالات المعروفة فى الولايات المتحدة، وعُشر المُعدل الموجود فى سنغافورة وقد ترتفع الإصابات بسبب الأجانب لكن يبقى أن تجربة تستحق الوقوف عندها طويلًا. 

نجحت تايون فى مشاركة التكنولوجيا والعمل النشط والمشاركة المدنية فى محاربة الوباء، وطورت البلد الديمقراطية صغيرة المساحة والرائدة تكنولوجيًا، فى السنوات الأخيرة إحدى أكثر الثقافات السياسية حيوية فى العالم، من خلال توظيف التكنولوجيا للعمل فى صالح الديمقراطية بدلا من الإضرار بها، وبالفعل أثبتت هذه الثقافة التكنولوجية المدنية أنها أقوى استجابة مناعية فى البلاد أمام فيروس كورونا.

 

النضال الإلكترونى 

 برزت المشاركة التصاعدية للمعلومات، والشراكات الخاصة والعامة، وما يعرف بـHacktivism أو «النضال الإلكتروني» (وهو استخدام أجهزة الحاسوب والشبكات الحاسوبية لتعزيز أجندة سياسية، وغالبًا ما ترتبط أهدافه بحرية التعبير، حقوق الإنسان أو حرية المعلومات)، وإجراءات التشارك الاجتماعى،كانت جميعها جوهرية لنجاح البلاد فى تنسيق مجموعة استجابات تحظى بتوافق فى الآراء وتتسم بالشفافية فى مواجهة فيروس كورونا. 

وبالفعل رصد تقرير أصدرته كلية  الطب بجامعة ستانفورد (أمريكية)  124 مبادرة متميزة طبقتها تايوان بسرعة ملحوظة، تدفق الكثير من تلك المبادرات إلى القطاع العام من خلال الأنشطة المجتمعية وفعاليات الهاكاثون، والمداولات على المنصة الرقمية الديمقراطية vTaiwan، التى يُشارك فيها نصف التعداد السكانى فى البلاد تقريبًا، (تُتيح المنصة قدرًا كبيرًا من ممارسة النضال الإلكترونى والمناقشات المدنية وتعزيز المبادرات بشكل منظم)، وقد استخدم المجتمع اللامركزى من المشاركين أدوات على غرار Slack و  HackMD «برمجيات تعاونية» لصقل المشروعات الناجحة، ومن أبرز الأمثلة الناجحة لذلك هو Face Mask Map، وهو تعاون بدأه رائد أعمال يعمل مع حركة g0v. من أجل منع المبالغة فى شراء أقنعة الوجه بسبب الذعر، وهو ما أخّر استجابة تايوان لوباء SARS عام 2003، وضعت الحكومة نظام ترشيد على الصعيد الوطنى وحددت قناعين فقط أسبوعيًا لكل مواطن، وفى ظل توقعها ألا تكون هذه السياسة الوطنية كافية لتجنب نفاد الأقنعة من الصيدليات المحلية، أصدرت الحكومة واجهة برمجة التطبيقات API تعمل على تقديم بيانات فورية عن توفر أقنعة الوجه فى كل موقع مُحدد.

تكنولوجيا الوقاية  

تابعت وزيرة الشؤون الرقمية، أودرى تانغ، مع رواد الأعمال والقراصنة الحقوقيين فى حركة g0v من خلال غرفة محادثة رقمية لتقديم مجموعة من الخرائط والتطبيقات على نحوٍ سريع، وقد أظهرت تلك الأدوات أماكن توفر الأقنعة، لكنها أظهرت أيضًا ما هو أهم، إذ تمكن المواطنون من إعادة توزيع الحصص من خلال الصفقات المؤقتة والتبرعات للأشخاص الأكثر احتياجًا.

ولم يقتصر الأمر على ذلك، فهناك منصة تُساعد المواطنين على العمل معًا من أجل تقليل التعرّض للفيروس، وكان الدافع الجزئى للعمل على هذه المنصة هو وصول سفينة سياحية تحوى نسبة عالية من العدوى، ونشأت المنصة نتيجة تعاون بين مجموعة من رواد الأعمال والوزارة الرقمية وحركة g0v، واستخدم الأفراد المنصة لمشاركة التقارير، تطوّعًا ومباشرة، حول الأعراض باستخدام مختلف أشكال الوسائط (مثل خطوط الاتصال والهواتف الذكية)، وجرى التحقّق من تلك المعلومات وجمعها سريعًا، ثم جرى دمج النتيجة مع التطبيقات التى أنشأها المجتمع لتسمح للمستخدمين بتنزيل تاريخ المواقع التى زاروها من الهواتف الذكية، وتحديد ما إذا كانوا قد تعرّضوا للفيروس. وكان ذلك التصميم منطقيًا، لذا شجّع على السلوكيات الاستباقية، وحدّ المستخدمون، الذين شعروا بالقلق حيال تعرّضهم للفيروس، من تعاملاتهم بعدها لحماية الآخرين.

ورغم أنّ النظام كان تشاركيًا مفتوحًا، فإن المنصة لم تُساعد فى نشر التضليل والذعر، وبضمان توافق تواريخ الحركة المُبلغ عنها جرى استبعاد المتصيّدين لتجنُّب الاختلالات التى تحُطّ من قدر الشبكات الاجتماعية التجارية فى أوقات الأزمات، وقلّل توافر تلك المعلومات من العبء الاقتصادى لاحتواء المرض، عن طريق تجنّب سياسات التباعد الاجتماعى الموحّدة والمُشدّدة،  وبدلا من ذلك، بات المواطنون قادرين على تجنّب أو تطهير المواقع المعرّضة للخطر، أو عزل أنفسهم ذاتيًا فى حال زيارتها.

تطبيقات لمواجهة الوباء

 سمحت عشرات التطبيقات لتايوان بتجنّب الافتقار إلى عوامل التنسيق وسوء تخصيص الإمدادات والاختبارات، التى سيطرت على الاستجابة الأمريكية والأوروبية، فضلا عن تجنّب النهج الهرمى السرّى للتخطيط الصينى المركزى، وحافظت تايوان على ثقة الجمهور من خلال إضفاء الشفافية على استجابتها للأزمة الصحية، إذ بثّت الوزيرة الرقمية «أودرى» كل اجتماعاتها عبر الإنترنت، وشجّعت كذلك عددًا من الأطراف اللامركزية على الإسهام بحلولٍ والاستفادة من المعلومات الرسمية، عن طريق كشف التحديات التى تُواجهها الحكومة بدلاً من ادّعاء أنّ الحكومة لا تُقهر، وتمكّنت أيضًا من التحرّك مُبكّرًا دون عرقلة الاقتصاد أو التسبُّب فى انقسامٍ سياسى أو إثارة الخوف، عن طريق الاستجابة المُحكمة المستهدفة للمواقع وأنواع الأنشطة التى تُمثّل تهديدًا، وتظهر من خلال بيانات المجتمع. بقى أن نقول إن الديمقراطية وإشراك الشعب فى الحل هل بديل أن تكون الجماهير هى الأزمة بدلا من إدارة اتصال فوقى لا يستند إلى «رجع صدى» فتبدو الأوامر جوفاء تطبق إجبارًا؛ وإن كانت تهدف إلى حل الأزمة جذرياً، وربما كشف النجاح التايوانى فى التعامل مع الأزمة فى إسقاط القناع عن عمالقة التكنولوجيا الغربيين الذين يعتمدون على الإعلانات والدعاية الجوفاء لتبدو الديمقراطية والمكاشفة هي الحل الناجز للأزمة وعلى أقل تقدير تقليل خسائرها لتقدم تايوان «بديلاً ثالثا» عن سلطوية الصين ورأسمالية أمريكًا  عبر قيادة اتصال متكافئ بين الحكام والمحكومين كشركاء فى السلطة والمسؤولية أيضًا.