السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

السينما والأقباط

باعتبار أن الأقباط المصريين، نسيج أساسى فى المجتمع، فإن الكثير من قصص هؤلاء الأقباط تلاحمت مع قصص إخوانهم المسلمين فى أفلام السينما. كما أن بعض هذه الأفلام كان أبطال قصصها الرئيسيين من الأقباط، أسوة بأن الكثير من قصص السينما تروى أيضا حكايات المسلمين.



فى هذه الأفلام تلاحمت هذه القصص المسلمة المسيحية فى نفس النسيج، باعتبار أن هذا هو هيكل المجتمع، فالمسلمون يشاركون أقرانهم المسيحيين فى أعيادهم الدينية، ومناسباتهم الخاصة، وكذلك يفعل الأقباط مع المسلمين، وسوف نرى أن هذا التلاحم موجود فى أفلام بعينها، من خلال قصص مجموعة من طلاب مصر الجديدة فى فيلم «ضحك ولعب وجد وحب» لطارق التلمسانى عام 1993.

وأيضا فى «البوسطجى» لحسين كمال عام 1968، و«للحب قصة أخيرة» 1985، ثم «سيداتى آنساتى» لرأفت الميهى 1990، و«التحويلة» لأمالى وأفلام كم احراج حسن الإمام مثل «الراهبة» 1965 و«شفيقة القبطية»1963 و«بديعة مصابنى» 1975 ثم هناك القصة التاريخية فى فيلم «الناصر صلاح الدين» ليوسف شاهين بين عيسى العوام ولويزا عام 1963.

يمكن أن نجمع مجموعة من السمات التى تربط فيما بين هذه الأفلام، وموضوع الأعياد القبطية التى ظهرت فى كل فيلم أو جزء من قصص هذه الأفلام وهى :

يتفاوت ظهور الهوية القبطية، أو إخفاؤها لاعتبارات اجتماعية عامة من فيلم لآخر، ففى بعض الأفلام لم يؤكد السيناريو المكتوب على هوية أبطال القصص، وإن كانت أسماء هؤلاء الأشخاص تأخذ الهويتين معا، مثلما حدث فى فيلم «البوسطجى» أمام شخص مثل جميلة، وخليل، ومريم، ووصيفة، أما والدا جميلة فقد أشير إليهما فى السيناريو المنشور باسم «والدة جميلة» و«والد جميلة»، ولكن السيناريو يشير إلى أن اسمه «سلامة» وقد أشار النص الأدبى المأخوذ عنه الفيلم إلى هويتهما الدينية. وجميلة تتلقى تعليمها فى مدرسة دينية بأسيوط، وهى نوع من المدارس تضم الكثير من التلاميذ من الديانتين.

وإذا كان النص الأدبى ليحيى حقى فى «دماء وطين» قد أشار إلى هوية جميلة وأسرتها، فإنه لا توجد أى إشارة واضحة بالمرة إلى هذه الهوية فى الفيلم، بل أن جميلة تستحلف عمها بالنبى مرتين فى المشهد رقم 66 من السيناريو الذى يدور فى بيت العمة بالنحيلة : «ياللا والنبى يا عمتى نروح»، ثم هى تكرر الحلف مرة أخرى «والنبى يا عمة.. عشان خطرى. والمعروف أن الأقباط لا يميلون أى القسم بشكل عام، ويستخدمون ألفاظا من طراز «صدقنى». كما خلت جدران بيت المعلم سلامة من أى إشارة إلى الهوية الدينية للأسرة، وأيضا لخليل، ولم يكن الفيلم فى حاجة للدخول إلى هذه النقطة، ولكن الأسماء التى ترى على لسان خليل تتحمل التأويل، فخليل فى المشهد رقم 69 يشير أن «نجيب أفندى واصف جوز أختى اللى فى إسكندرية كان مواعدنى بوظيفة» وهو اسم قبطى بقدر ما هو اسم مسلم فى صعيد مصر».

لكن هناك أفلاما أخرى تتم الإشارة إلى الهوية القبطية بكل وضوح مثل شفيقة القبطية، وبديعة مصابنى (وهى أسماء حقيقية فى التاريخ)، ومثل الخالة دميانة فى «للحب قصة أخيرة»، ومثل «ماما تريز» صاحبة البيت فى «سيداتى آنساتى» وهناك بالطبع إشارة واضحة إلى ديانة كل من مها وفريد فى فيلم «ضحك ولعب وجد وحب» . ويبدو ذلك واضحا من خلال اللوحات المعلقة على جدران منزل الفتاة. كذلك هناك إشارة واضحة إلى أن عيسى العوام قبطى مصرى فى فيلم «الناصر صلاح الدين»، بالإضافة إلى الأماكن التى تدور فيها أحداث أفلام أخرى مثل «الراهبة».

 ظهرت شخصيات قبطية عديدة فى أفلام مصرية تشير إلى الوحدة الوطنية فى مصر، وقد بدا ذلك واضحا فى أفلام مثل «الناصر صلاح الدين» وشخصية المناضلين فى «بين القصرين»، وأيضا شخصية القس فى نفس الفيلم، ونفس الشخصية فى فيلم «الزواج على الطريقة الحديثة» لكمال كريم، وأيضا شخصى الجنود الأقباط الذين يدفعون حيواتهم من أجل أوطانهم فى الحروب ضد إسرائيل فى أفلام «الرصاصة لإنزال فى جيبى» و«أبناء الصمت» و«العمر لحظة» وغيرها. وقد تعاملت السينما مع هؤلاء الأشخاص بشكل طبيعى باعتبار أن الأقباط جزء من نسيج المجتمع. وأنه يتم تجنيد أبناء الشعب مهما كنت ويتهم، شريطة اللياقة الجسمانية والعقلانية، وفى داخل الوحدات العسكرية تنصهر جميع الطبقات الاجتماعية والطائفية، تحت لواء الرتبة التى يحملها كل شخص.. والكثير من القصص التى تظهر هذه الوحدة الوطنية تعود إلى التاريخ، سواء المعاصر منه، أو التاريخ القديم، فرغم الحملة باسم الصليب القادمة من أوروبا، فإن عيسى العوام القبطى المصرى، حسب الفيلم، يدافع عن وطنه مصر ضد الغزاة الأجانب، مهما كانت هويتهم الدينية، ويشارك فى تدمير مراكبهم، وقد أبرز الغزاة الأجانب، مهما كانت هويتهم الدينية، ويشارك فى تدمير مراكبهم، وقد أبرزالمخرج يوسف شاهين هذه الشخصية فى الفيلم للتأكيد على أن الوحدة الوطنية فى مصر قديمة، وأنه عندما يقترب خطر أجنبى،ولو باسم الصليب، فإن أبناء الصليب المصريين يهبون للدفاع عن وطنهم، وهم لاينطلون تحت اسم الصليب القادم من أوروبا. ومن التاريخ الحديث كان هناك مشهد التأم فيه أبناء الهلال والصليب لمواجهة جنود الاحتلال الإنجليزى فى «بين القصرين» وسقط ضحايا من الطرفين برصاص هؤلاء الجنود منهم (فهمى أحمد عبدالجواد) وزملاؤه الأقباط. وهناك مشهد فى هذا الفيلم، يتصاف فيه رجل من الأزهر، وقس، ثم يخرج الاثنان لقيادة مظاهرة وطنية، تنادى بالوحدة للهلال والصليب، ومن التاريخ الأكثر حداثة باعتبار أن حرب أكتوبر قد صارت تاريخا الآن، اشترك فى الحرب من خلال الأفلام السابقة الذكر جنود مسلمين وأقباط أيضا. وفى فيلم «التحويلة» لأمالى بهنسى 1996، يدافع ضابط مسلم عن السجين القبطى الذى تم اعتقاله خطأ فى أحد المعتقلات، وقد دفع كل منهما ثمن موقفهما، فاختلطت الدماء القبطية المسلمة عندما أطلق أحد الجنود النيران على الاثنين، فراحت الدماء تنسال فى نفس المجرى، لونها أحمر تعبر عن قوة التلاحم.

 لم تقد السينما أقباط مصر كذميين، بل كمواطنين يعيشون قصص حب فيما بينهم، مثلما يعيش مسلمون نفس قصص الحب بمفرداتها، فإذا كانت هناك أفلام ربط فيها الحب بين مسلمين ومسيحيين سبقت الإشارة إليها فى الفصل السابق، فان هناك أفلاما أخرى قامت فيها قصص حب بين مسيحيين فقط، دون أى تدخل من المسلمين بالمرة، ولعل فيلمى «شفيقة القبطية» و«الراهبة» هما أبرز مثالين على ذلك. والفيلم الأول تدور أحداثه فى مصر الربع الأول من القرن العشرين. أما الفيلم الثانى فيدور فى لبنان. 

ليست هناك علاقة بين القصة التى رأيتها فى الفيلم، وبين الرواية التى نشرها جليل البندارى قبل عامين من عرض الفيلم، كما ليست هناك علاقة بين وقائع الرواية، والحقيقى للراقصة شفيقة القبطية. فحسب مقال نشره محمد السيد شوشة فى مجلة «دنيا الفن» عام 1962، فإن البندارى قد استوحى هذه القصة عن شفيقة القبطية من قصة كتبها شوشة عن راقصة أخرى اسمها «توحيدة» فمزج البندارى بين اسم شفيقة القبوبين حوادث عاشتها توحيدة.

 

 

 

ليس مجالنا هنا المقارنة، لكن السيناريو الذى كتبه محمد مصطفى سامى قد اختلف تماما عن الواقع، والنص الأدبى، ونحن نرى شفيقة فى قمة مجدها، وليس فى بدايته مثلما حدث فى رواية البند، حيث يقوم الأب بطرد ابنته شفيقة بعد أن أخطأت، وتضطر أن تترك وحيدها عزيز فى أحضان والدتها، وتمر السنوات ويقع عزيز، بعد أن كبر فى السن طبعا، فى غرام سعاد ابنة أسعد باشا، وهو عشيق والدته شفيقة. وتتعرف المرأة على ابنها، دون أن يعرف هويتها الحقيقية بالنسبة له. ويحدث أن يتقدم عزيز لخطبة سعاد، فيهينه والدها، ويطرده. وتسمع بهذا شفيقة فترد له الإهانة بأن تزدريه أمام زوجته. وتبعا لهذا فإن الباشا يأمر بوضع عزيز فى السجن، ويتخلى شفيقة، ويختار خادمتها بهية عشيقة جديدة له بعد أن قامت هذه الأخيرة بسرقة أموال شفيقة، وثروتها من الذهب. وأمام صدمة سعاد العاطفية فى فشل حبها، ودخول عزيز السجن، فإنها تختار دخول الدير، ورفض الاقتران بعزيز عقب خروجه من السجن، أما شفيقة القبطية تسقط فى أعناق العوز، والفقر، وتتعاطى الكوكايين ثم تموت بين ذراعى ابنها الذى يعرف فى آخر لحظة أنها أمه.

ونحن أمام قصة قبطية فى المقام الأول، وأغلب أبطالها من العشاق، وغير ذلك، من الأقباط، وليست هناك إشارة إلى أن قصة حب بين شخصية من ديانة مختلفتين قد قامت هنا، وأيضا فى فيلم «الراهبة» لنفس المخرج وأيضا لنفس كاتب السيناريو، وقد جسدت فيه هند رستم شخصية راقصة، والقصة هنا يرجح أن تكون مقتبسة من رواية فرنسية كعادة النصوص التى يكتبها محمد مصطفى سامى لحسن الإمام. وأختها فتاتان مسيحيتان، تعيشان فى لبنان، وإن كانت اللهجة فى كل الفيلم باللغة العامية المصرية، وهما يتعرفان على المرشد السياحى عادل، تعجب به هدى. لكنه ينصرف عنها إلى أختها التى لا تعرف مشاعر هدى نحوه، ويتفقان على الزواج. وتنهار هدى وتمر بحالة نفسية سيئة. فتتعرف على فؤاد صاحب أحد الملاهى الذى يغريها بالعمل فى الملهى، وتصبح نجمة لامعة، ويحاول الكثيرون كسب ودها. ولكنها تضيق بحياتها وتقرر دخول الدير لتصبح راهبة.

فى الفيلمين، خاصة الأخير، صور حسن شعائر الرهبنة بالتفصيل. وها نحن ثانية أمام قصة حب كل أطرافها من نفس الديانة، دون أن يكون هناك أطراف من ديانة ثانية، وإذا كانت إيفون قد دخلت الدير فى فيلم «لقاء هناك «بسبب فشلها فى حب عباس المسلم، فإن هدى تدخل الدير هنا كى تضحى من أجل أختها. ونرى فى هذا الفيلم هدى قبل أن تصدم تضع الصليب على صدرها، وتتبرك بتمثال العذراء فوق الجبل كما أنها ترفض العودة للحياة الطبيعية بعد الرهبنة.

وهناك فيلم ثالث لحسن الإمام، كتبه أيضا محمد مصطفى سامى حول نفس قصص الحب يحمل اسم الفنانة الشهيرة «بديعة مصابنى» وهى امرأة لبنانية جاءت إلى مصر، كى تعمل فى فرقة نجيب الريحانى الذى تتزوج منه، ويصنع منها نجمة ذات شهرة عريضة. ولكنهما لا يلبثان أن ينفصلا كزوجين، وتقيم فرقة خاصة بها، ثم تلبث أن تنهار على يدى الراقصة الجديدة ببا عز الدين، مما يدع ببديعة أن تعود إلى لبنان بعد إصابتها بالفقر. وفى مذكرات حسن الإمام التى نشرتها مجلة الشبكة أن أحمد الحاروفى متعهد حفلات قديم، قد اشترى مذكرات بديعة مصابنى ودفع إلى الإمام الذى تحمس لها، وأسند البطولة إلى نادية الجندى، ثم إلى نادية لطفى بعد أن دب خلاف بين الممثلة والمنتج.

مثلما هناك صليب على صدر هدى فى الراهبة، فإن هناك نفس الصليب على صدر بديعة مصابنى، الفيلم لحظة انفصال بين الريحانى وبديعة، حيث يأتى القس كى يحاول إرجاع كل منهما عما قرر، لكن كلا الاثنين يبدو عند رأيه حتى يتم الانفصال، والمعروف أن الأقباط المصريين لا يتم بينهم الطلاق بمثل هذه السهولة، لكن لأن بديعة لبنانية فإنه تم الطلاق على طلب أحد الطرفين أو كلاهما. * برزت الأماكن القبطية فى هذه الأفلام بما لها من قدسية عالية لدى المسيحيين فى مصر أو لبنان معا، وقد اتضح هذا فى علاقة هدى بتمثال العذراء فوق الجبل، فهو يضاء بهالته المقدسة، وهى فى الكنيسة تقوم بمسح الأرضية دليلا على تقدم للمكان وتقديسها له، كما أنها تهب كل حياتها للكنيسة، حى تقوم بالتدريس لتلاميذ صغار، وهى تزور من وقت لآخر، وتضع الايشارب على رأسها دليل الاحتشام تفعل ذلك. كما أنها ترتدى مسوح الراهبة حين يقام حفل زفاف أختها فى نفس الكنيسة على الرجل الذى أحبته الاثنتان، الأخت وهدى معا، وتبدو معالم الكنيسة مليئة بالرهبة، وأدعى إلى الخشوع فى أحداث الفيلم، فى أحداث كل الأفلام التى رأينا فيها العاشقات يخترن هذا البيت السماوى كبديل للحياة الرغدة. وقد امتزج ظهور الكنائس من الداخل والخارج بموسيقى كنيسة مهيبة، ذات دلالات خاصة فى كل من «شفيقة القبطية» و«الراهبة».

فى الأفلام المصرية التى يتحاب فيها شاب مسلم وفتاة مسيحية، فإن أحداث الفيلم تكون حريصة تماما ألا تقع الفتاة فى الخطيئة، ولكن فى بعض القصص صورتها هذه السينما بين عاشقين من نفس الديانة، فإن هناك خطيئة ما تحدث بين الطرفين، حيث تزل الفتاة، ولا يكون أمام الاثنين سوى الزواج. وفى فيلم «البوسطجى» الذى سبق أن أشرنا أن الهوية الطائفية لم تكن واضحة تماما فإن جميلة أخطأت مع خليل الذى أخذ يراسلها ويؤكد لها أنه سوف يتزوجها، فتبعا لوضعه الاجتماعى الجديد بعد الخطيئة فإن خليل يرحل إلى مدينة ليعمل موظفا، و«عاوزك تكتبى لى وأنا مع أول ما تبعتيلى عنوان ح أكتب لك على كل حاجة» ولكن هذه الرسالة تقع بين يدى البوسطجى المتلصص على أسرار الناس، ويقوم بخطأ غير مقصود،  بخاتم باطن الرسالة بخاتم البريد، مما يعنى استحالة إرسالها إلى الفتاة الخاطئة التى تنتظر الرسالة على أحر من الجمر. وينتج عن ذلك أن تفوح رائحة الفضيحة ويقوم الأب بذبح ابنته بعد أن اكتشف انتفاخ بطنها.. وفى فيلم «ضحك ولعب وجد وحب» رأينا واحدا من شلة رباعى مدارس مصر الجديدة يحب تلميذة صغيرة، والاثنان قبطيان، هو فريد، وهى مها، وتقع الصغيرة فى الخطيئة مع حبيبها، ونتيجة لصغر سنهما فإنه من المحال أن يتزوجا، وعندما تضيق السبل بفريد، فإنه يذهب إلى عائشة، حبيبة الطلاب، وعاشقة أدهم كى تجد حلا لهذا الأمر، وفى البداية تستضيف مها فى بيتها، ثم تطلب والدتها لتحاورها وتكشف لها الموقف، كما أن عائشة «أش أش» تستدعى طبيبا ليقوم بإجهاض الفتاة. وحسب نهاية الفيلم، ومن خلال بضعة سطور مكتوبة على الشاشة، نعرف أن فريد قد تزوج من مها بعد تخرجه، وإنه دخل الجيش، واستشهد فى حرب أكتوبر. والفيلم كما هو معروف مأخوذ عن تجربة ذاتية للمخرج طارق التلمسانى أملاها على كاتب السيناريو مجدى أحمد على، فكتبها كما رأيناها، أى أننا أمام شخصيات حقيقية مثل «بديعة مصابنى» «شفيقة القبطية»، وإن كانت السينما قد قامت بتغيير ملامحها كما شاء لها.•