الثلاثاء 16 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

الفكرة الدينية فى الفن.. وتواصل الحضارة المصرية

«أنت يا من يشرق بجماله فى آفاق السماء ..يا من يضىء المشرق بنوره فتملأ الأرض بجمالك.. أيها الجميل القوى الرائع.. العلى فوق الأرض هذه اشعتك تغمر الأرض فتحيا بما خلقت جميعا وإنك لتدرك آخر الأرض رغم ارتفاعك عنها فتجمع لولدك أطرافها.. تعاليت فامتد نورك على الأرض أيها الظاهر الباطن».



«يامن إذا استويت فى غرب الكون باتت الدنيا فى ظلام يشبه الموت.. فإذا الناس فى المضاجع وإذا رءوسهم فى غطاء فلا ترى عين أخرى.. ولا تلبث دواب الأرض أن تغادر أوكارها.. ويبيت الكون فى سكون لأن خالقه قد أمسى وراء هذه الدنيا» .

 

تلك الكلمات من صلوات أخناتون أو «امنحوتب الرابع». .يضمها كتاب صدر بالعربية والإنجليزية والفرنسية مع الهيروغليفية للدكتور أحمد بدوى كما حقق الهيروغليفية الدكتور جمال مختار .. وهو مزين بـ12 لوحة للفنانة إحسان خليل زوجة المفكر الفنان حامد سعيد الذى وضع مقدمته» .

ولعلنا ندرك من خلال قراءتنا لأناشيد أو صلوات إخناتون معنى التوحيد و كيف تأمل فرعون مصرفى فلسفة الوجود ..من خلال تلك المناجاة مع الواحد الأحد.. ما يجعلنا نعتز بأن مصر مؤمنة قبل العالم من أول التاريخ ..ومن هنا كانت صاحبة حضارة كبيرة فى تاريخ البشرية.. وهى التى علمت العالم . كما يقول «هربرت ريد»علامة النقد وفلسفة الفن فى القرن العشرين: «تعتبر العلاقة بين الفن والدين واحدة من أكثر المسائل التى علينا أن ندركها.. فنحن ننظر ما وراءنا نحو الماضى فنرى الفن والدين.. يبرزان معا يدا فى يد من أعماق التاريخ».. ومن  «صلوات إخناتون» ومع ظهور الفكرة الدينية التى كانت رائدتها مصر ..تواصلت الحضارة المصرية من المصرى القديم وإلى المسيحية والإسلام.. وعرف ما يسمى بالتصوير الدينى. 

وإخناتون يعنى «الروح الحية لآتون» كان فرعون من الأسرة الثامنة عشرة وتركزت عبادته على «آتون» وهى عبادة توحيدية«إله واحد» ..وهنا نطالع  جدارية ضخمة من النحت البارز ..تصور إخناتون وأسرته متجهين ناحية الشمس التى تعد رمزا للإله ..وقد حاول توحيد آلهة مصر القديمة بما فيها الآله الأكبر «آمون رع».. فى شكل الإله الواحد «آتون». 

عندما أدرك إخناتون «أمنحتب الرابع».. أنه لا إمكانية للاستمرار فى طيبة بعدما أظهر كهنة «آمون» العداء لدعوته الجديدة التى حاول إدخالها.. كان لزاما عليه ..أن يبحث عن موقع جديد ينتقل إليه ويدعو منه لربه «آتون».. وانتقل إلى مدينته الجديدة فى العام الرابع من حكمه ونقل عاصمة البلاد من طيبة «الأقصر» إلى عاصمته الجديدة «أخيتاتون» بالمنيا على بعد عشرة كيلومترات من ملوى ..على البر الشرقى للنيل .. فيها ظهر النحت والرسم الذى أضاف إلى إبداع المصرى القديم ..وتعرف باسم «تل العمارنة».

ومما يجدر أن عصره قد دفع الفن إلى آفاق أوسع نحو التعبير عن الطبيعة تعبيرا صادرًا عن بحث ووعى.. ودراسات تحضيرية تسبق هذه الأعمال .. والمتامل لأرضية قصر إخناتون المحفوظة بالمتحف المصرى .. يرى كيف عبر الفنان عن جماعات البط ..وهى تطير ناشرة أجنحتها فوق شجيرات البردى فى بركة قصر فرعون .. وهكذا يعبر الفن عن الدين والدنيا..ومن الفن المصرى بتعبير حامد سعيد»صاحب مدرسة الفن والحياة «نتعرف على  :«مضاء العزم وهدوء الإيمان ونقاء الشكل وتجلى الحق فى الخلق ..وقسوة الحجر ورقة الزهرة ووحى الأنوثة وسمت الرجولة ..ومعنى الخلود .

الفن القبطى 

مع حلول العصر القبطى فى مصر فى القرن الرابع الميلادى بدأ الفن يتحلل من القيود الدينية.. كما يقول «هربرت ريد»:إذ بدأت المسيحية وهى دين ديمقراطى.. تحتوى  فنون الشعب ..وتحتضنها وترفعها من أى مكانة احتلتها من أى وقت .. ومع الشكل الصارم الذى اتخذته المسيحية وهو الرهبنة التى لم يكن لها مطالب كثيرة من الفن..وهنا  نشعر بالارتياح ..أننا أمام الحرية الزخرفية والخيال الإنسانى الذى يجسد المنسوجات والمخطوطات المزخرفة التى ترجع  إلى المرحلة القبطية . كما دخلت المسيحية مواضيع جديدة فى فن النحت.. وتظهر براعة الفن القبطى فى الحفر على الخشب ..مثلما هو واضح فى باب كنيسة «الست بربارة» و«الكنيسة المعلقة» فى مصر القديمة..ورسم الفنان القبطى رسومات فنية جميلة جدا على القماش والجص. 

لكن تظل «الأيقونة» مساحة فريدة فى التصوير فى الفن القبطى ..الذى يعد الوريث للرسم والتصوير عند المصرى القديم  ..وهى كلمة يونانية تعنى صورة ..وفى الفن القبطى تشتمل موضوعاتها على صورة السيد المسيح والسيدة العذراء والرسل والقديسين والشهداء والملائكة ..وفيها أيضا حكايات مصورة وردت فى الكتاب المقدس .. وهى مفعمة بالروح  فيها تعبيرشاعرى  عن عاطفة  الشعب المصرى  بعيدا عن الوثنية ..ولما كان الفن القبطى مضطهدا من الرومان.. فقد اتجه الى الرمز مثلما عكس خلجات النفس ونبضات التعبير الانسانى ..تجاه الأحداث والوقائع من خلال مفردات وعناصر ..أكدت شخصيته خاصة والايقونات القبطية ..تعد تفاسير مصورة كما يقول القديس «غريغوريوس»: «إن كانت الكتابة والعظات هى ايقونات لفظية ..فإن الأيقونات بدورها هى عظات وكتب مرسومة مسجلة ..بلغة بسيطة جامعة ..يقرأها الكل دون تمييز بين لسان ولسان ..يترجمها الامى بلغة البساطة ويتلمس فيها المتعلم ماتعجزالكتابة الإفصاح  عنه».

وإيقونات الفن القبطى تختلف عن الأعمال الفنية الاخرى فى الفكرة الدينية ..تختلف عن الفن اليونانى وفنون الغرب فى عصر النهضة ..كما يقول الفيلسوف الإنجليزى القسيس «جوزيف بتلر»: «الأقباط هم المسيحيون الوحيدون الذين لم يقبلوا على تصوير آلام القديسين أو عذابات الخطاه فى الجحيم «..ورغم أن كنيسة مصر قد شهدت من الاضطهاد أكثر من أى كنيسة أخرى فلانجد مايمثل صور الجحيم أو العذاب ..حتى أن صور الشهداء تصورهم بفرحة الحياة السماوية ..كما نرى فيها شخصية المرسوم وصفاته الإنسانية التى من بينها : الهيبة والقداسة والعفة والشجاعة والبساطة والتواضع.  وفى الحقيقة تتميز رسوم الايقونات بروح فطرية فيها براءة اللمسة.. وقد عكف عليها القديسين من الآباء مثل .. القديس لوقا البشير ومن أعماله أيقونة القديسة مريم العذراء وهى تحمل السيد المسيح.

الفن الإسلامى 

بدا التطور الكامل لمرحلة الفن القبطى وتلك الاتجاهات المتنوعة ..مع العصر الإسلامى الذى ابتدا فى القرن التاسع ..وكان قد ارتقى إلى الجمال الزخرفى حين اصبح مختلطا بطبائع الناس.. واستطاع بالتحامه بالحساسية الكامنة فى الشعب كله أن يبعث فنا جديدا يعتبر من اسمى الأعمال الجمالية التى حققها الجنس البشرى بتعبير «ريد»..والفن الإسلامى له طابعه المميز وشخصيته المتفردة وله مدلوله الثقافى والاجتماعى الخاص.. وهو قمة من قمم أنماط الإبداع  العالمى وفوق كل ذلك يكمل منظومة الفكرة الدينية وتواصل الحضارة المصرية ..وهو فى جوهره يعمد  إلى الشكل المطلق.. الذى يحتوى على خطوط ومنحنيات وسطوح وأحجام مستخرجة من الأشكال الطبيعية فى نغمة صوفية نقية ..حيث يشيع فيه جمال المنطق الرياضى الذى هو طابع الفن المصرى خلال العصور .. وإذا كان التصوير الإسلامى قد ظهر فى تصوير المخطوطات معتمدا على التشخيص كما فى مدرسة بغداد فى «مقامات الحريرى «ليحيى الواسطى».. وتصاوير المصور «بهزاد» وتلميذه قاسم على والتصاوير الفارسية كما فى «معراج نامة» .. يضاف إلى هذا الصور  الجدارية فى العصر الفاطمى فى مصر كما يشير أبو صالح الألفى ..فقد  كشفت فى حمام جهة «أبو السعود» بالقاهرة ..عن صور جدارية لفتيان وفتيات ملونة بلون أحمر ومحددة باللون الأسود.. ويلحظ فيها الاهتمام بإبراز الملابس وتحديد تقاطيع الوجوه والاعتماد على الخط ..على اعتبار أن الفن يصور الحياة الدنيوية مع الدين أو المطلق .

وما يعرف«بالأرابيسك» فى الفن الإسلامى ما هو إلا فن مصرى قديم تشهد به آثار توت عنخ آمون والمتحف القبطى والآثار القبطية التى تعددت نماذجها بتعبير د.نعمات فؤاد امتدادا لروائع مصر القديمة ..وأعطت مصر للفن الإسلامى الجامع الأقمر وجامع الحاكم نشاهد فيهما كثيرا من العناصر التى كانت مألوفة فى العصر القبطى حتى الزخرفة بالأشكال الهندسية من مثلثات ومربعات ودوائر ..وخطوط متلاقية ومتقاطعة مما اشتهر به الفن الإسلامى تعود إلى الفن القبطى ..فى مرحلة من مراحله خدم فيها الرمز فى التعبير .

ولعل هذا يؤكد وحدة الشخصية المصرية فى الفن فى مختلف العصور ..كما تتأكد الفكرة الدينية .. والتى جعلت من مصر الرائدة بداية من «إخناتون» وصلواته «إله واحد آتون»..وهو يصل بنا إلى ذروة التجليات والإشراقات فى نهاية النشيد أو الصلاة حين يقول : «مبدع الفصول والأهلة لتنظيم ما خلقت يداك ..جعلت لهم شتاء ليتذوقوا البرد وأحميت لهم الأرض قيظا ليتذوقوا باسك ..ثم رفعت السماء على الأرض لترسل منها ضياءك ..واستويت على عرشك فيها لتشهد من تحتها خلقك ..عندما تشرق آياتك فى نور الشمس أيها المشرق البهى البعيد القريب بارئ ملايين الخلق من نفسك. . مبدع الحدائق والقرى والزرع والطرق وهو واحد» .

الفن اليهودى

رغم تعدد المعابد اليهودية بين القاهرة والإسكندرية  إلا أنه لا يوجد ما يعبر عن الفكرة الدينية فى التصوير.. فقط بعض نماذج قليلة من النحت البارز فى وحدات تتكررفيها «نجمة داود».. التى تعد من أهم رموز الشعب اليهودى.. وتسمى بالعبرية «ماجين دافيد»بمعنى درع داود .

ويبدو أنه لا يوجد ما يشير إلى الإبداع التشكيلى بين اليهود.. يعكس للفكرة الدينية أو الشخصية اليهودية.. والسر فى ذلك يرجع إلى التحريم القاطع للتصوير والتماثيل كما جاء فى التوراة نص الوصية الثانية من الوصايا العشر والتى تقول: «لا تصنع لك تمثالا منحوتا ولا صورة ما.. مما فى السماء من فوق وما فى الأرض من تحت.. وما فى الماء من تحت الأرض».

 ولكن فى العصر الحديث ظهر الفنان الروسى اليهودى مارك شاجال «1887-1985» كأحد أعظم فنانى القرن العشرين ..عاش طفولته فى بيئة يهودية محافظة على تقاليدها وعاداتها..وظهرت موهبته فى الرسم بالمدرسة المحلية بقريته الصغيرة بفيتبسك  وانتقل إلى باريس..لدراسة الفن الفرنسى المعاصر وتعرف هناك على فنانى وشعراء «مدرسة باريس» التى جمعت مواهب العالم من أصل شرقى أوروبى مع مختلف دول أوروبا مثل «بيكاسو وميرو من إسبانيا وهو  وسوتين من روسيا وبرانكوزى من رومانيا ومودليانى من إيطاليا».

أبدع شاجال عالمه الأسطورى الذى امتزج فيه الواقع بالخيال 

   فى أعمال من اللوحات الزيتية والرسوم التوضيحية للكتب والزجاج المعشق وديكورات المسرح والرسم على الخزف والنسيج.. قدم كل هذا فى صور شعرية ساحرة نابضة بالحياة والخيال الفنتازى.. وقد اعتمد مع أسلوبه الخاص على ثقافة الفولكلور اليهيودى حيث عاش حلما طويلا من ذكريات الطفولة هناك من بينها صور للشخصيات اليهودية مثل :«يهودى يصلى» و«يهودى بوجه أخضر».. مع حكايات مصورة تحلق فيها  آلات  موسيقية وحرفيون وعشاق زهور ملونة وديكة حمراء وحمير وأبقار وعنزات محيرة كما صور نفسه وحبيبته الطائرة فى فضاء الصورة التى صارت زوجته ورحلت مبكرا.. بما  يجعلنا نبتسم ونتعجب من فرط دهشة العلاقات والكائنات .

عكس شاجال الفكرة الدينية من خلال مشاهد من الكتاب المقدس 

حتى أطلق عليه «الفنان اليهودى المثالى».. فهو يقول: كنت مفتونا بالكتاب المقدس  من الصغر ..بدى لى أنه أكبر مصدر للشعر فى كل العصور..وهو  يشبه صدى الطبيعة وهذا هو السر الذى حاولت نقله».. يرى شاجال السرد الكتابى من منظور جديد بعيون يهودى روسى ورؤية روحية تتميز بتعبيرات ذاتية عميقة ..صور فيها  الأحداث والوقائع الدينية من خلال سيرالأنبياء : سيدنا إبراهيم والذبيح وسيدنا موسى والوصايا العشر وسيدنا داود صاحب الصوت العذب فى التسبيح والغناء .. وغيرهم بتعبيرية عالية وعمق درامى جمع فيه.. بين اللمسة الحديثة ومسحة القدم والبعد التاريخى فى محفورات جرافيكية ملونة وأبيض وأسود. 

ولشاجال  رسوم تزيينية أخرى مثل: «حكايات من  ألف ليلة» و«خرافات لافونتين».•