الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

ضحايا السجون الأمريكية - 4 -

من المعروف أن أكبر كوارث الحياة لأى أب أو أم تتمثل فى فقدان  أحد أطفالهما، وأن  أكبر أمانيهما فى الحياة  أن يريا أبناءهما يكبرون أمامهما فى صحة وسعادة، لكن جيمس ريتشاردسون لم يفقد طفلا واحدا بل سبعة أطفال، الموجع أن يتم اتهامه زورا فى جريمة قتلهم وأن يسجن 22 عاما حتى يستطيع أن يظهر للعالم براءته. 



جيمس جوزيف ريتشاردسون (ولد فى 26 ديسمبر 1935)  هو رجل أمريكى من أصل أفريقى أدين فى عام 1968 بتهمة قتل أطفاله السبعة. فى أكتوبر 1967، حينما  حدثت فاجعة كبيرة ألا وهى وفاة جميع الأطفال  بعد تناول غداء مسمم يحتوى على  مبيدات الفوسفات العضوية،  فى تلك الأثناء  كان ريتشاردسون مجرد عامل مزرعة  فى مقاطعة  أركاديا بولاية فلوريدا، يعيش مع زوجته آنى ماى ريتشاردسون والأطفال، كان مشهورا بين الجيران بالطيبة وحبه لأسرته وأطفاله، لم يكن جميع الأطفال أبناءه بيولوجيا، فقد تزوج من أنى ماى كأم عزباء لديها طفلان وأنجب منها خمسة من الأطفال، كان الاثنان يعملان فى الحقول ليتحصلا على ما يكفى لأطعام كل هذه الأفواه والأبناء منتظمون فى الدراسة، أسرة سعيدة برغم قسوة الحياة ولكن شاءت الأقدار أن يختبر جيمس أسوأ تجربة من الممكن أن يمر بها إنسان على وجه الأرض.  

فى محاكمة فى فورت مايرز بولاية فلوريدا، وجدته هيئة محلفين بيضاء مذنبا بقتل الأطفال وحكمت عليه بالإعدام. ولكن نتيجة لقرار المحكمة العليا للولايات المتحدة لعام 1972 فورمان ضد جورجيا الذى خلص إلى أن عقوبة الإعدام غير دستورية، تم تخفيض عقوبته إلى السجن مدى الحياة. . و لكن ماذا حدث لهذه العائلة المنكوبة: فى 25 أكتوبر 1967، استهلك أطفال ريتشاردسون السبعة، الذين تتراوح أعمارهم بين سنتين وثمانى، طعامًا مسمومًا بالباراثيون،  توفى ستة من الأطفال فى ذلك اليوم: بيتى  8 سنوات؛ أليس  7 سنوات ؛ سوزى  6 سنوات؛ دورين  5 سنوات فانيسا  4 سنوات ؛ وجيمس جونيور، البالغ من العمر سنتين، بينما   توفيت الطفلة السابعة  ديان، البالغة من العمر 3 سنوات، فى اليوم التالى.  كانت بيتى وأليس من زواج آنى ريتشاردسون السابق، بينما كان جيمس والد أصغر خمسة أطفال. 

فى الليلة السابقة، أعدت آنى ماى ريتشاردسون، زوجة جيمس، غداءً من الفاصوليا والأرز والفريك للأطفال. تم وضع الوجبة فى الثلاجة المغلقة طوال الليل. وفى الصباح غادر ريتشاردسون للعمل فى بساتين البرتقال على بعد 16 ميلاً،  كانت  بيسى ريس جارة لهم  وتقوم برعاية الأطفال أثناء عمل والديهما.  ذهب الأبناء الأربعة الأكبر إلى المدرسة فى الصباح  و كما هى العادة  رجعوا  إلى منازلهم لتناول الغداء مثل كل يوم ، بعدها رجعوا لاستكمال اليوم الدراسى، بعد أن عادوا إلى المدرسة بعد ظهر ذلك اليوم، لاحظ مدرسوهم أنهم يظهرون أعراضاً غريبة، وأخذهم مدير المدرسة على الفور إلى المستشفى، بينما  ذهب أحد المعلمين إلى منزل الأسرة لإبلاغهم ، إلا أنه وجد  أن  الأطفال الثلاثة القابعين  بالمنزل  مرضى أيضًا والأب والأم غير موجودين، وعلى الفور  تم نقلهم أيضًا إلى المستشفى،  تركوا رسالة إلى الوالدين  بأن أحد أطفالهما فقط  مريض وأن على أحد الوالدين  القدوم إلى المستشفى. بمجرد وصول الرسالة إليهما غادر كلاهما العمل  فورا  للذهاب إلى المستشفى، غير مدركين حقيقة أن ستة من أطفالهما قد ماتوا بالفعل فى ذلك الوقت.

كان جوزيف مينوجان من قسم شرطة أركاديا أول ضابط يصل إلى المستشفى. وحيث إن جميع الأطفال المرضى من نفس العائلة، ذهب على الفور إلى مبنى شقتهم للبحث عن أى سم محتمل أو دليل يساعد فى حل اللغز إلا أنه  لم يجد فى الشقة ما يدل على السم باستثناء بخاخ الحشرات، ولم يعتقد أنه يمكن أن يكون سببًا فى تسمم الأطفال، لذلك عاد إلى المستشفى.  كان رئيس شرطة أركاديا ريتشارد بارنارد ورئيس شرطة مقاطعة ديسوتو فرانك كلاين هما التاليان اللذان فحصا ولاحظا وجود رائحة قوية وفشا المنزل والسقيفة ولكن لم يتم العثور على أى شىء، وخلص جميعهم عن عدم إمكانية وفاة الأطفال نتيجة لبخاخ الحشرات. فى صباح اليوم التالى وبعد وفاة الطفلة الأخيرة تم اكتشاف كيس يحتوى على مادة البارثيون السامة فى سقيفة المنزل والتى سبق فحصها مرتـين و لـم يعثر بهـا على أى شـىء، وقدمت مجموعة تقارير متضاربة عن كيفية العثور على هذه المادة، هناك من ادعى أنه عثر بنفسه على المادة وهناك من قال إن المادة تم العثور عليها بعد ورود مكالمة من مجهول، ولكن اتفق الجميع على عدم وجود المادة فى أي من  التفتيشات الأولية.

وفى اليوم التالى، أخبر أحد رجال الشرطة الصحفيين أن ريتشاردسون ناقش وثائق التأمين للأطفال فى الليلة السابقة لوفاتهم مع مندوب التأمين،  تبين  أن بائع التأمين، جورج بورفيس، تحدث إلى ريتشاردسون قبل ساعات من تعرض الأطفال للتسمم.  وفقًا للسلطات وما قيل فى ذلك الوقت، قدم ريتشاردسون وبورفيس قصصًا متضاربة. أقيمت جنازة الأبناء وانهار الأب والأب تماما من فرط الحزن، ولأهمية الحدث وقتها، انهالت المحطات الوطنية للإذاعة والتليفزيون لنقل الجنازة وتغطية الخبر إعلاميا بشكل مكثف، هنا رأى الضابط كلاين فرصة لصنع اسم كبير لنفسه حتى لو بالتضحية بشخص برىء. بعد يومين من الجنازة قام  كلاين  باتهام ريتشاردسون بسبع تهم قتل  من الدرجة الأولى.برغم من اعتراف قائد الشرطة وقتها بعدم وجود أى قضية تجاه هذا الرجل، بل تمادى كلاين وادعى زورا أن الرجل قد قتل أبناءه من اجل أموال التأمين، وطلب ان يعرض على جهاز كشف الكذب، والذى أظهر لهم أنه يتوتر حينما يذكر التسمم و هو ما يشير إلى أنه مذنب.

عقدت هيئة محلفين قضائية جلسة استماع فى 2 نوفمبر 1967، حيث قال القاضى هايز والذى كان من القضاة ذوى الخبرة والمكانة وقتها إنهم مجتمعون للحكم على ريتشاردسون بعد تأكد الشرطة من قيامه بالجريمة مما كان له أكبر أثر على المحلفين واعتبروا ان القضية منتهية بالأدانة: 

جون  روبنسون،  محام أبيض يبلغ من العمر 30 عامًا، أصبح قلقًا بشأن التغطية الإعلامية لجرائم قتل أركاديا. كان يعتقد أن القضية تم التعامل معها بشكل غير عادل حيث ادعى القاضى باستمرار أن ريتشاردسون مذنب، قام من فوره بالاتصال بأشخاص كانوا يعرفون ريتشاردسون وأخبروه أن له سمعة كرجل عائلة ولم يصدقوا أنه سيقتل أطفاله.، وهنا طلب  روبنسون أن يتولى قضية الدفاع عنه.

ذهب روبنسون للتحدث إلى ريتشاردسون بينما كان محتجزًا فى سجن المقاطعة قبل المحاكمة. كان ريتشاردسون مصرا على أنه لم يقتل أطفاله لأنه أحبهم كثيرا، كما قال ريتشاردسون إن شريف كلاين كان يدفعه فى الأرجاء ، واصفا إياه بالزنجى ، ويستجوبه بطريقة عنيفة كل يوم.

قدم روبنسون طلبًا للحصول على أمر بإخلاء سبيله بكفالة من  بعد فحص الأدلة المتاحة وعدم العثور على أى شيء جوهرى يمكن أن يشير إلى أن ريتشاردسون مذنب وتمكن بالفعل  من إطلاق سراحه  بكفالة.

وفجأة اعترف بعض السجناء والذين كانوا جميعًا رفقاء زنزانة مع ريتشاردسون فى سجن أركاديا، إن ريتشاردسون اعترف لهم بأنه قتل الأطفال وعليه  ألغى للقاضى الكفالة  وأمر بسجن ريتشاردسون مرة أخرى، وطلب تغيير المكان، إلى فورت مايرز، فى مقاطعة بعيدة ، ورفضت محاولات روبنسون لنقل المحاكمة إلى مقاطعة أكثر عدالة.

بدأت المحاكمة صباح يوم الاثنين 27 مايو 1968 فى محكمة مقاطعة لى،   جميع المحلفين المختارين كانوا من البيض. على الرغم من المحاولات المستميتة والعديدة، لم يتمكن روبنسون من الحصول على هيئة محلفين أكثر إنصافًا.

خلال المحاكمة، أقرت بيسى ريس بأنها قسمت الوجبة إلى سبعة أجزاء متساوية بمجرد عودة الأطفال إلى المنزل، وعلى الرغم من معرفتهم بكونها قد دخلت السجن من قبل، إلا أن أحدا لم يبذل أى جهدا للتحقق من سبب دخولها إلى السجن وما اذا كان لها دخل بوفاة الأطفال.. أقر رجال الشرطة بعثورهم على السم بالمنزل و اتفقت رواياتهم و بعد نصف ساعة من المداولة حكم على ريتشاردسون بالإجماع بالموت لقتله أبناءه مع سبق الإصرار والترصد. 

وحكمت المحكمة على ريتشاردسون بالموت، وكان ينتظر تنفيذ حكم الإعدام قرابة خمس سنوات. تم إنقاذه بحكم المحكمة العليا الأمريكية فى عام 1972 بأن عقوبات الإعدام فى الولايات المتحدة فى ذلك الوقت كانت غير دستورية. تم تخفيف عقوبته إلى السجن المؤبد ، مع أهلية الإفراج المشروط فى عام 1993.. تم تجاهل وإخفاء العديد من القرائن التى كانت ستشير إلى براءة ريتشاردسون. زار مارك لين، وهو محام شهير وقتها، ريتشاردسون أثناء انتظاره تنفيذ حكم الإعدام. و طلب ريتشاردسون من لين تمثيله. بدأ لين بالفعل  تحقيقًا شاملاً ونشر فى عام 1970 نتائجه فى كتاب أركاديا ، الذى كشف فيه أن حاضنة الرضيع ، بيسى ريس ، كانت قاتلة مدانة ، وأشار إلى أن ريتشاردسون وزوجته كانا أبرياء. 

فى وقت قتل الأطفال، كانت ريس قيد الخروج المشروط بعد اتهامها  بقتل زوجها السابق باستخدام السم، لكن عمل الادعاء بجد لمنع هذه الحقيقة من الظهور فى المحاكمة.  لم يتم فعل الكثير لمتابعة تورطها فى وفيات الأطفال على الإطلاق.

حتى عام 1988، كانت ريس، التى أصبحت  تعانى من مرض الزهايمر فى دار رعاية فى أركاديا ، قد اعترفت بجرائم القتل أكثر من 100 مرة ، لكن اعترافاتها لم تؤخذ على محمل الجد بسبب حالتها. و ثم توفيت من مرض الزهايمر عام 1992.  أيضًا، الشاهد الأخير الباقى على اعتراف ريتشاردسون المزعوم فى زنزانة السجن تراجع عن شهادته أمام مشرعى الولاية، قائلاً إنه عرض عليه عقوبة أخف مقابل الشهادة. 

علاوة على ذلك ، كان التحقيق فى وفيات الأطفال غير كافٍ: لم تتم متابعة الأدلة ، ولم يتم الرد على الأسئلة الحرجة ، ولم يتم حل التناقضات أبدًا، ولكن استمر المحامى  لين فى تقديم الطعون على أنه تم ارتكاب ظلم خطير وأن الشخص الخطأ أدين بارتكاب الجرائم، بعد النظر فى جميع الأدلة المقدمة  وملاحظة التناقضات والظلم الذى حدث فى أركاديا منذ أكثر من عقدين، قال قاضى الدائرة المتقاعد كليفتون كيلى إن ريتشاردسون لم يتلق محاكمة عادلة، وأطلق سراحه فى الحجز بفضل مثابرة محاميه لين.

بعد إطلاق سراحه،  أقام دعوى قضائية ضد مقاطعة ديسوتو لمحاكمته الخاطئة،  وحصل على  تعويض قدره  150 ألف دولار، ولكن  فى 25 أغسطس  2008  قدم ريتشاردسون دعوى أخرى  بموجب قانون تعويض الإدانة الخاطئ فى فلوريدا، والذى ينص على تعويض عن السجن غير المشروع بمبلغ 50 ألف دولار سنويًا ولكن للأسف لم يتلق أى مدفوعات أخرى،  أنتج عنه فيلم وثائقى فى عام 2015 بعنوان (الوقت سيمر ببساطة) والذى اختتم بالتصويت له بالتعويض،  بعد حصوله على البراءة فى 1989 بعد أن مكث 21 عاما فى السجن.