الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
الناس معادن

الناس معادن

و من كل المعادن تلاقى ناس.. فيه ناس صفيح، وناس حديد، وناس نحاس.. فيه ناس خشب، وناس دهب.. وناس رصاص.



فى وقت الأزمات وفى المواقف الصعبة، تظهر حقيقة المعادن، ويبان الفرق بين الرخيص والنفيس، تسقط الأقنعة وتنكشف الوشوش، ويبان الفرق بين الحقيقى والمزيف، وساعتها بيكون الحكم على الناس صح، ويتسكن الواحد منا فى الوضع والمكانة اللى يستاهلها. حين يكون البريق خادعًا، ويكون اللمعان مزيفًا، لا يستطيع الصفيح التمادى فى لمعانه، ويتحول البريق إلى صدأ باهت ومريض.. إنه اختبار القدرة والحكمة وردة الفعل تجاه الأحداث المؤثرة، فلا يخيل على الجماعة ادعاء مدع، ولا تظاهر مظهرى بقدرته على الفعل أو الإنجاز.. حين تأتى الهموم يأتى أصحاب الهمة المهمومون دومًا بحملها، وتحمل مسئولية درء الأخطار، ونجدة الملهوف، ودعم الضعيف، وشحذ همة أولى الهمم، يتبارى أصحاب العزم والعزيمة، وتحتشد الطاقات الإيجابية لصالح الناس والإنسانية، إنها معادن البشر التى تؤسسها، وتدعو إليها، وتضع قواعدها التنشئة الثقافية، التى يتشربها الطفل فينشأ عليها، ويمارس الحياة من خلالها، يتربى على عزة النفس، فيصبح عزيزًا بين الناس وعلى الشهامة فيصبح درع وقاية وسندًا ضد كل خطر أو أذى.. إنهم أصحاب المعدن النفيس، الذين يتنفسون كرامة وبأساً ومحبة.

وكنت بشوف بننى العين، بلدنا فيها طيبين ياما، قلوبهم واخدة من اللبن لونه، عينيهم ترسم الصورة لشكل الخير.. وبحلف أنهم لسه ف بلدنا كتير..عندما اشتعلت الحريقة فى دار أبو السعد النصراني، بادرت فاطمة بنت محمد عبدالوهاب فى الصياح والصويت، ورددت كل النساء ما فعلت، دون أن يدرين الأسباب، لكنه إعلان عن خطر قد حل، ومصيبة قد جاءت لواحد من الناس.. واحد مننا، مشكلته بتاعتنا، وألمه ما يرضيناش.. لأن الألم فى المجتمعات القروية، ألم مشترك بيطول الكل، ويؤثر فيهم، وبيدعيهم دايمًا لصد أذاه. كانت وهى تجرى مسرعة إلى مصدر الضرر، تسأل: هى الحريقة فين؟ لم يكن يعنيها على وجه الإطلاق عند مين؟ ولم يكن واردًا بأى حال، التراجع عن السعى، أو التخاذل عن أداء الدور، معرفة صاحب المصيبة، الكل واحد، والواحد فى حماية الكل.

كنت أشاهد المشهد، وأتابع الحدث الجلل، بعين الطفل الخائف وقلبه المرتجف بحيرة الجماعة  قلقها، الذى يدعوهم إلى الاحتشاد والمقاومة.. جريت وأقرانى بكل طاقة، وانطلقت إلى هناك، دون أن أدرى ما يجب أن يكون، وأى دور ممكن أن أؤديه.. جاءنى صوت آمر، لم أتبين مصدره ولم أحاول-طرمبة يا وله.. قبضت على يد الطرمبة بنشاط المتحمس للقيام بأحد الأدوار، وانسابت المياه لتملأ الطشوت والجرادل والحلل، وكل ما يمكن أن يمتلئ بالمياه.. تشكلت سلسلة من النساء والرجال ناحية مصدر النيران، وانطلق بعض الشباب كالسهام إلى قلب الدار، ينقذون الأطفال والحيوانات والطيور وكل ما يمكن إنقاذه من النيران المشتعلة.. سهام تنطلق نحو الخير ودرء خطر الخراب والدمار، بلا تردد أو تراجع أو تخاذل أو تقاعس عن أداء الفعل الطيب، بغير سعى لبطولة وهمية، وبغير انتظار لشكر أو عرفان.. تدفعهم روحهم الطيبة وأصلهم النبيل، نحو ما يجب أن يكون عليه الفرد فى الجماعة، فاعلا ومحققًا لرغبة الناس فى التعايش مع الحياة، والعيش فيها، على جناح المودة والتقارب والتلاقى، ضد أذى الخطر، وخطر الابتعاد.

وشفت ناس دهب لامع.. وشفت بياض بلون ناصع.. وشفت الصورة بتنور بأصحابها.. وناس بتحب تتصور، وبتدور على الفلاشات.. وناس بتموت لكن عايشه، وناس عايشه، لكن أموات.