الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

استراتيجية ما بعد «كورونا»

هل تسعى الصين لتحويل أزمة «كورونا» إلى فرصة اقتصادية وسياسية، وتقلب الكفة تمامًا على الولايات المتحدة الأمريكية؟ هل تستخدم الدولة الأكثر تضررًا من تداعيات كورونا، الفيروس نفسه لقلب الطاولة على الإدارة الأمريكية، التى كانت تخطط لتقليل اعتمادها على الصين. 



 تسلسل زمني

فى البداية واجه الحزب الشيوعى الحاكم فى الصين عاصفة من الانتقادات لأخطائه فى مواجهة الأزمة، ولكنه سرعان ما تجاوز تلك الأخطاء بل وظهر وكأنه قائد ملهم «باسم العالم» لمكافحة الفيروس، وساهم فى الإيحاء بذلك وسائل الإعلام «الرسمية» التى يضع يده الغليظة عليها، ناهيك عن انتقاد الولايات المتحدة وكوريا والتقليل من جهودهما «تحديدًا» لمكافحة الفيروس. وفى محاولة لتلميع «الاستبداد» والزعيم شى جين بينغ، سعت الإدارة الصينية لتحويل الأزمة لمكسب سياسى يؤكد قوة النظام الحاكم وعلى رأسه «بينغ» فى مكافحة الفيروس وليس هذا فحسب بل تم الإعلان عن خطط لنشر كتاب بـ6 لغات يصور الرئيس الصينى باعتباره «قائد ملهم» سينتصر على الفيروس.. يبدو فى الصورة أيضًا دعم ظاهر من المعسكر السوفيتى لما تقوم به الصين، فالعدو الأمريكى المشترك واحد، وتسعى بكين للترويج لفكرة أن الخبراء الدوليين يؤيدون أبحاثها ودورها المسؤول فى صد الفيروس عن العالم والوصول إلى لقاح.

بطولة وهمية

الحزب الشيوعى الصينى أغرق وسائل الإعلام التى يسيطر عليها بعشرات من القصص الوطنية والتضحية والبطولة والفداء التى يقودها الجنود «الأطباء» تحت رعاية الرئيس، وأرسلت السلطات مئات الصحفيين الذين تربوا فى المعسكر الاشتراكى وأكلوا على مائدته لإنتاج قصص عاطفية عن أطباء وممرضات الخط الأمامى وكأنهم يفدون العالم كله بأرواحهم.. وبمجرد أن تمكنت بكين من التحكم نسبيًا فى سرعة انتشار الفيروس وقلصت من أعداد الإصابة، سعى الرئيس الصينى لاستغلال الأمر باعتباره انتصاراً سياسياً للحزب فى مواجهة الإمبريالية الأمريكية، وقال أمام كوادر الحزب: إن الانخفاض الأخير فى الإصابات «أظهر مرة أخرى المزايا البارزة لقيادة الحزب الشيوعى الصينى ونظام الاشتراكية ذات الخصائص الصينية»، وكأن الشيوعية الصينية أرعبت الفيروس الرأسمالى الأمريكى.

استراتيجية ما بعد «كورونا»

ليس سرًا أن هدف واشنطن من استغلال أزمة كورنا هو فك الارتباط الاقتصادى تمامًا مع الصين، وعلى الضفة الأخرى للنهر تبدو بكين تفكر بطريقة معاكسة، فهى تسعى لاستخدام الأزمة لصالحها تمامًا.. على مدار 3 سنوات سعت إدارة ترامب للضغط على الصين لوقف ممارساتها التجارية التى تعتبرها «غير عادلة»، وذلك باستخدام التعريفات والمفاوضات والإجراءات لحماية الصناعات الأمريكية، وكرها عنها أبرمت بكين على مضض فقط صفقة «المرحلة الأولى» التجارية التى تعالج القليل من هذه القضايا، لكن الآن الجميع يتحدث عن مكاسب الصين من الفيروس واستفادتها من كونها أول دولة تبدأ فى التعافى من فيروس كورونا باعتبارها أول دولة أصيبت عليه للهيمنة على صناعات المستقبل.. وبحسب الخبراء فإن بكين لديها «استراتيجية ما بعد الفيروس» وهى قيد التنفيذ بالفعل، وتخطط فيها الصين لاستخدام التباطؤ الاقتصادى فى الغرب لصالحها إذ تعتزم البحث عن المزيد من الاستثمار الأجنبى المباشر، والاستيلاء على حصة فى السوق فى الصناعات الحيوية ومحاولة منع الغرب من مواجهة ما تعتبره واشنطن «وجود تخريبى لبكين».. وإذا عدنا بالذاكرة، بعد الأزمة المالية لعام 2008، فقد ملأت بكين الفراغ الاقتصادى من خلال بناء شركاتها الوطنية الكبرى باستخدام الإعانات الحكومية الضخمة وسرقة الملكية الفكرية، وبعد 12 عامًا، أصبحت الصين حاليًا موطنًا لبعض كبريات الشركات وأكثرها قدرة فى العالم.

وببساطة «تخطط بكين لزيادة إنتاج السلع المتنوعة لإغراق السوق وزيادة حصتها فى السوق، بينما الشركات الغربية تقف تعانى من تداعيات كورونا، كما تعد الصين نفسها لتكون ملاذًا لرأس المال الأجنبى إذا انتعشت أسواقها قبل أسواق الغرب».. فالصين لديها خطة استراتيجية طويلة الأمد تركز على المشاركة فى اختيار مواطن النفوذ والأنظمة يمكن أن تضغط للمطالبة بها على الولايات المتحدة والنظام العالمى والآن بعد أن بدأ العالم فى الإغلاق، ترى الصين فرصتها للانتقال بسرعة أكبر وتحقيق أهدافها.

دبلوماسية الكمامات

 تعمل بكين على تكثيف إنتاج الإمدادات الطبية ومكونات الأدوية، وهو ما سيعطى لها اليد العليا فى مجال مكافحة الفيروس عالميًا، وسينعكس عليها إيجابيًا سياسيًا واقتصاديًا.. وبقدر ما تهيمن الصين على تصنيع السيارات والصلب والإلكترونيات وغيرها من الضروريات، فإن بكين ضرورية لتوريد المعدات الطبية الواقية فى العالم.. وقبل الأزمة كانت الصين تصنع نصف الكمامات الطبية فى العالم، وبعد أزمة الفيروس فرضت بكين قيودًا على تصدير الكمامات حتى تلك التى تنتج فى مصانع شركات أجنبية على أراضيها، بل استوردت كميات كبيرة من الخارج، وقامت الصين بزيادة إنتاجها من الكمامات الجراحية التى يمكن التخلص منها، وارتفع الإنتاج اليومى من نحو 10 ملايين فى بداية فبراير المنصرم، إلى 115 مليوناً فى نهاية الشهر، وفقًا للأرقام الرسمية.

والحقيقة أن الصين تقدّم الكمامات الطبية نموذجًا لاستخدام قدراتها الصناعية والاقتصادية والعلمية لأغراض دبلوماسية، وبينما تفرض قيودًا غير رسمية على تصديرها، فإن الحكومة الصينية بدأت إرسال بعض الشحنات إلى دول أخرى كجزء من حِزم المساعدات، وقدمت 250 ألف قناع، الشهر الماضى، لصديقتها إيران، وهى واحدة من أكثر الدول تضررًا من الوباء، و200 ألف للفلبين، وقالت بكين إنها سترسل 5 ملايين قناع إلى كوريا الجنوبية، وستصدّر 100 ألف جهاز تنفُّس و2 مليون قناع جراحى إلى إيطاليا.. الأمر لا يمكن وصفه ببحث بكين عن نفوذ سياسى فحسب عبر إعلان نفسها من كبار المتبرعين أو استخدامه كأداة لقوة سياستها الخارجية، ولكنه وصل إلى تهديد الغرماء بتركهم يموتون، وقد هدد أحد التعليقات فى وسائل الإعلام الحكومية الصينية بأنه إذا حجبت الصين مكونات العقارات والأدوية، فإنها قد تُغرق الولايات المتحدة فى «البحر العظيم لفيروس كورونا».

مكاسب كورونا

 لم تخف بكين طلباتها من العالم، حيث دعت وسائل الإعلام الحكومية لتوسيع نشاط الشركات الصينية فى الخارج بالمرحلة المقبلة، خاصةً فى القطاعات الرئيسية، مثل خدمات اتصالات الجيل الخامس 5 G، والسكك الحديدية عالية السرعة، ومركبات الطاقة الجديدة، والذكاء الاصطناعى،

والإنترنت الصناعى، وبكلمة أخرى تسعى بكين لزيادة اعتماد البلدان على شعار «صنع فى الصين».  وبالفعل فإن الصين الآن الأكثر سرعة فى التعافى مع المرض ويعود العمال الصينيون بالفعل إلى المصانع، فى حين تتوقف اقتصاديات الولايات المتحدة وأوروبا عن العمل، وقد ويبدو أن الصين فى المراحل الأولى من الانتعاش الاقتصادى، كما أنها قد تكون الأقرب إلى إيجاد لقاح لكورونا، وهو ما قد يعزز هيمنتها الاقتصادية ويزيد نفوذها السياسى عالميا إن لم تسارع الولايات المتحدة بتقديمه «إذا كانت تملكه بالفعل».