السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

إعادة اكتشاف نحن ـ 2ـ

سور الهوية العظيم يحمى الصين

قبل المُضى فى إكمال هذه السلسلة حول الهوية والعقيدة المصرية، التى سبقها عدد من المقالات التمهيدية دارت حول الموضوع نفسه،  يطرأ على عقل الكاتب قبل المتابع سؤال منطقى: هل هذا الموضوع يستحق أولوية فى الطرح وسط هذه التحولات الكبرى التى يشهدها المجتمع البشرى فى تلك اللحظة التاريخية الفارقة من تاريخ الإنسانية؟ يبقى تحديد الأولوية أمرًا نسبيّا، لكن عندما نرقب الأحداث نجد أن أمر النسبية يتراجع وننتقل إلى حتمية أولوية الطرح بسبب هذه التحولات واللحظة التاريخية.



نرى بوضوح أمواجًا عاتية من التحولات الكبرى، فهناك الإمبراطورية الصينية الصاعدة تلقت ضربة فجائية أثناء صعودها الواثق قبل لحظات من الوصول إلى أهدافها النهائية، إذ كانت الضربة بفعل الطبيعة أمْ بفعل خصم يخشى على مركزه المتين والمهيمن على العالم منذ ما يزيد على نصف قرن، ففى كلتا الحالتين تلقّى التنين الصينى الضربة.

تبدو آثار الضربة واضحة من حيث الخسائر فى الأرواح أو تعطيل دوران عجلة المشروع الاقتصادى الجبار للإمبراطورية الصاعدة، لكن الحقيقة أن هدف الضربة كان أكثر عمقًا من الآثار الظاهرة، فالهدف العميق الذى أرادت الضربة الوصول إليه هو تحطيم نظرة الذات الصينية لنفسها وفيما حققته ونزع الثقة فى الدولة الصينية الحديثة التى تدير هذا المشروع الإمبراطورى، ثم الوصل بالذات الصينية إلى لحظة التمرد الكامل على الدولة والمشروع لتتفشى الفوضى ويبدأ الانحدار المضاد للصعود.

هذا بالنسبة للداخل، أمّا بالنسبة للخارج فالهدف العميق أراد عزل الصين عن المجتمع الإنسانى وفرض حصار على الامتداد الإمبراطورى لها فى العالم، الذى تحقق عن طريق مبادرة الحزام والطريق وتطويق المراكز الحضارية والاقتصادية التى أنشأتها المبادرة فى قارات العالم الخمس.

تحقق فى الموجة الأولى من الضربة جزء ليس هينًا من الهدف العميق تقودعملية التحقيق حملة دعاية سوداء ممنهجة ومركّزة تعتبر الأكبرمنذ نهاية الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى، والتى انتهت بزوال الإمبراطورية السوفيتية.

هذه الضربة وهدفها العميق تتشابه مع ما  واجهته الدولة الصينية من أحداث قبل 31 عامًا فى أبريل 1989 فى الميدان السماوى «تيان من» بالعاصمة بكين، الفارق بين ما حدث فى الميدان ووباء مدينة ووهان، أن قبل 31 عامًا كان المشروع الإمبراطورى الصينى يخطو خطواته الأولى، أمّا الآن فهو يقترب من خط النهاية محققًا فوزًا مستحقًا بعد ماراثون طويل وشاق.

تعلمت الدولة الصينية درسًا من الميدان حفظته واستوعبته جيدًا، وتأكد الحفظ والاستيعاب وهى تشاهد زوال الإمبراطورية السوفيتية بعد أحداث الميدان السماوى بعامين، نفع الدولة الصينية الدرس وما أكدته المشاهدة فى مواجهة ضربة ووهان وهدفها العميق.

يتلخص الدرس والتأكيد فى أن بناء وظائف الدولة الحديثة أمر سهل، أمّا بناء الأمة القادرة على الإيمان بهذه الدولة فهوالصعب؛ لأن هذه الأمة وليس الدولة هى من سيحمل أبناؤها مشاعل المشروع الإمبراطورى إلى كل أرجاء العالم، ولا يكتفون بذلك، بل يجب عليهم القتال من أجل الحفاظ على كل شبر من الأرض وصلت إليه مشاعل المشروع، ولن يقاتل الإنسان إلا عن إيمان عميق لتحقيق أهداف دولته ومشروعها. 

كان السؤال المُلح على القيادة الصينية: كيف نبنى هذا الإيمان والثقة المطلقة فى الدولة والمشروع؟ يمكن لهذا السؤال الكبير فى محتواه أن يدفع بأى قيادة إلى متاهة الإجابات ويبعدها عن طريق النجاة.

ابتعدت الصين عن المتاهة وحددت بوصلة الإجابة فى كلمة واحدة «الهوية» التى تتحول «عقيدة» راسخة وبدأت فى التحضير لعمل ضخم وليس هينًا من أجل ترسيخ هذه الهوية والعقيدة.

أول ما فعلته الصين كان نفى جميع الهويات البديلة والدخيلة على الأمة والعودة إلى الجذور التاريخية للأمة الصينية حتى إنها تجاوزت الإطار السياسى الذى يدير الصين منذ تولى الحزب الشيوعى الحُكم فى الصين واعتبرته مرجعية فى إدارة نظام الدولة، أمّا الهوية فهى تعلو عليه وترتبط بالجذر التاريخى للصين الذى ستؤَسّس عليه الهوية.

بدأت عملية إحياء كاملة للهوية القومية التاريخية بعمل حضارى وثقافى منظم حتى يترسخ فى وجدان الأمة، فكان الإحياء لرموز التاريخ الصينى القديم وكل ما يتعلق بالفترات التاريخية المختلفة، ولم يكن الأمر مجرد نقاشات فى الغرف المغلقة أو بين النخب، فقد كان المهم أن يصل هذا الوعى بالهوية للمواطن العادى متحولًا إلى عقيدة ثابتة ويصل خاصة إلى الشباب الذى تم دفع شرائح منه إلى مواجهة المشروع بالميدان السماوى فى 1989 عندما سيطرت عليه هويات بديلة تم الترويج لها من الخارج باسم الحرية والليبرالية.

أصبح كل عمل يتم فى الصين يجب أن يعبر عن الهوية الصينية المتجذرة فى التاريخ ويقوم بإحيائها بكثافة من أول الشعارات والعلامات التجارية والملصقات والأغانى والميديا إلى جميع المنتجات الثقافية الشعبية والنخبوية، كلها تحمل رسالة واحدة «نحن صينيون أولًا وهويتنا العريقة هى ما تحدد كيف ننظر لأنفسنا وللعالم». 

استدعاء هذه الهوية الأصيلة لم يكن فقط من أجل التمايز بين الأمم، بل تحويلها إلى ثقافة مركزية لها خصائصها المطلوبة بشدة لبناء المشروع، التى ستحكم وجدان المجتمع من خلال قوانين صارمة تجلت فى مفاهيم متعددة، منها أن الاستقراروالنظام قبل الحرية الفردية وأن الواجب الذى يقوم به الفرد تجاه مجتمعه يأتى قبل الحقوق التى يريدها، وعندما يكون هناك اختيار بين مصلحة المجموع ومصلحة الفرد تكون مصلحة المجموع هى الأولى فى النفاذ بعد أن تمت عملية الإحياء للهوية الغائبة. بدأت المرحلة الثانية، وهى إعطاؤها الطاقة للانطلاق فكان الحلم بأن تصبح الصين قوى عظمى ولها احترام بين الأمم وفق شروط ورؤية هويتها وليس اتباعًا لأحد، ولذلك عندما طرحت الصين مبادرة الحزام والطريق، فهى لم تلجأ إلى هوية بديلة لتتماشى مع السائد، بل صنعت عولمة قادمة من تاريخها فأحيت طريق الحرير ليكون تاريخها وهويتها هو عنوان مشروعها الحضارى والسياسى والاقتصادى للعالم، ويجب على الآخر الذى يريد المشاركة فى هذا الجهد أن يتقبل المفهوم الصينى لطبيعة هذه المشاركة.

لم تكتفِ الصين بترسيخ الهوية والعقيدة فى الداخل أو إعطائها طاقة الحلم وطرح مبادرتها العولمية ذات الجذر التاريخى الصينى لكنها انطلقت تبشر فى كل أرجاء العالم بثقافة صينية نابعة من هويتها من لغة وأسلوب حياة ومفهوم إدارة.

يبدو هذا التبشير للوهلة الأولى يعمل فى خدمة التمدد الصينى الإمبراطورى الاستراتيجى والاقتصادى، وهذا حقيقى فى جزء كبير منه، لكنْ هناك هدف أكثر أهمية وراء هذا التبشير هو إعطاء الثقة للمواطن فى الداخل الصينى أن هويته التى أحياها ليست مجرد تاريخ يتم استهلاكه محليّا، بل هى عامل حيوى وفعال فى صناعة ثقافة الأمم الأخرى، ما يعزز ثقة هذا المواطن فى هويته وفى المشروع الذى تقوم به الدولة وتؤمن به الأمة.

كانت نتائج عملية الإحياء ووصولها إلى الوجدان المجتمعى فى الصين واضحة بجلاء فى أن شرائح من قيادات النهضة الصينية هم أنفسهم ممن تواجدوا قبل 31 عامًا فى الميدان السماوى محتجين على مشروع الدولة نتيجة وقوعهم تحت تأثير هويات بديلة.

لم تكتفِ الصين بكل ما قامت به ولكنها دائمًا تتابع ترسخ هذه الهوية بين مواطنيها، وبخاصة الشباب من خلال أستطلاعات الرأى الدائمة، وكان هناك استطلاع تم إجراؤه قبل عام وبه عدد كبير من الأسئلة وموجّه للفئة العمرية التى وُلدت بين العامين 1999 و2000، وكان به سؤال مهم: إذا أعطيت فرصة ثانية لاختيار دولتك فماذا تختار؟  قال 93.5 فى المائة من المستطلع آراءهم إنه إذا أعطيت لهم فرصة أخرى لاختيار دولتهم فإنهم سيختارون الصين. 

رأينا تصدى الصين للضربة وهدفها العميق واحتواءها بإجراءات صارمة هى الأشد على مدار التاريخ الإنسانى فى محاصرة وباء واقتناع المواطن الصينى بما تقوم به دولته، رغم قسوته، ثم تعود الصين من جديد للاتصال بالعالم والخروج من العزلة وتقديم المساعدة لهذا العالم كما حدث فى الحالة الإيطالية.

لم يكن هذا التصدى والاحتواء وقبول المواطن ثم العودة والخروج نتيجة لوجود دولة حديثة وقوية فى الصين، فهنا الدولة أداة للمواجهة، أمّا منبع قوتها فيأتى من إيمان الأمة الصينية بهويتها التى شكلت عند أبنائها عقيدة راسخة قائمة على وجوب أن يكون للصين المكان الأكثر احترامًا بين الأمم. هذه الهوية والعقيدة التى عملت القيادة الصينية على استعادتها وتعزيزها بدأب وإصرار طوال السنوات الماضية كانت هى سور الصين العظيم الذى حمى التنين من الضربة وهدفها العميق.