الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

ضحايا السجون الأمريكية ـ 2 ـ

خمسة أطفال من ذوى البشرة السمراء، أصغرهم فى الثانية عشرة وأكبرهم فى السادسة عشرة، أولاد مسالمون لأسر مسالمة ممن يسيرون بجوار الحائط كما هو المصطلح المصرى الشعبى، بعضهم متفوق دراسيًا، وبعضهم يعمل بعد الدراسة لتوفير نفقاته ومساعدة أسرته، يجمعهم الطيبة ومنطقة السكن والفقر والحلم فى غد أفضل، لكن الغد لم يكن أفضل كما تمنوا، ففى مجتمع شديد العنصرية، من الصعب لهؤلاء أن يحصلوا على ما يتمنونه.



فى التاسع عشر من أبريل 1989 وبعد انتهاء اليوم الدراسى توجه الأطفال الخمسة كيفين ريتشارسون، يوسف إسلام، إنترون مكارى، كورى وايس، وريموند سانتانا إلى السنترال بارك بمنطقة هارلم حيث يعيشون، للعب مع أقرانهم، أعداد الأطفال كانت كبيرة جدًا، وللأسف كان هناك بعض الأطفال المشاغبين الذين استغلوا الموقف واحتموا فى التجمع الكبير وبدأوا فى تخويف المارة وإلقاء الحجارة على راكبى الدراجات، مما استدعى العديد من البلاغات للشرطة لوقف الشغب، بينما الأطفال الخمسة لم يشتركوا فى أى من تلك الأحداث، على العكس، حينما لاحظوا خروج بعض الأطفال عن السيطرة وتوافد الشرطة للمكان فروا إلى بيوتهم فورًا خوفًا من أن يتم الزج بهم فى تهمة إثارة الشغب ومهاجمة المارة، فى نفس الوقت تلقى الشرطة القبض على بعض الأطفال وتدينهم بتهمة إثارة الشغب وتشرع فى الاتصال بذويهم حتى يأتوا لتسلمهم والتعهد بالمحافظة على حسن سلوكهم مستقبلاً.

فى ذات الوقت تكتشف الشرطة جريمة بشعة وتبدأ الأحداث فى التحول إلى شكل أكثر سوداوية، فأثناء ممارسة امرأة بيضاء لرياضة العدو فى نفس المجمع الرياضى (سنترال بارك) وفى نفس وقت تجمهر الأطفال، تتعرض السيدة للاغتصاب ومحاولة القتل وتنجو بصعوبة، ولكن مع فقدان مؤقت فى الذاكرة، وتبدأ الشرطة فى التحقيق، وتكون نقطة البداية عند الأطفال السود الملقى القبض عليهم بتهمة الشغب، وتتجه كل الأنظار اليهم، ليس للبحث عن الجانى، ولكن عن قناعة تامة بأن أحد هؤلاء الأطفال أو مجموعة منهم قد قاموا بهذا الفعل الشنيع لا محالة.

تبدأ الشرطة فى تخويف الأطفال، وتهديدهم ودفعهم للاعتراف على بعضهم البعض، والتحقيق معهم بدون وجود محامين أو حتى بدون وجود ذويهم، وتحت الضغط يصرح الأطفال أن هناك بعض الأطفال قد فروا، وتبدأ الشرطة فى القبض على بعض الأسماء التى قيلت أثناء التحقيقات، المفارقة أن كورى ذا السادسة عشرة عامًا لم يكن من ضمن الأسماء الواردة بالتحقيق، ولكن ذهب طواعية لمساندة صديقه يوسف والاطمئنان عليه، وانتهى به الأمر إلى كونه المتهم الرئيسى، بل أسوأهم حظًا على الإطلاق.

وسرعان ما بدأت أبشع صور الضغط العصبى على الأطفال رغم عدم وصول بعضهم للبلوغ، وبالتالى استحالة القدرة على القيام بفعل الاغتصاب، ورغم بنيتهم الصغيرة، ورغم عدم وجود أى حمض نووى لأى منهم فى مكان الجريمة أو على الضحية، فأن القرار صدر بتحميلهم هذه الجريمة التى لم يقترفوها بناءً على التسلسل الزمنى الذى يربط بين وجودهم ووجود الضحية فى نفس المكان ونفس الوقت.

الأسوأ أنهم ظلوا يتنقلون بينهم محاولين الوقيعة أملاً فى الحصول على أى اعتراف، يتوجهون لأحدهم بكذبة أن الآخر قد اعترف بالفعل عليه وأنه أن لم يعترف عليه هو الآخر فسوف يذهب وحده إلى السجن لا محالة، مما يعدّ انتهاكًا صارخًا للقانون، ولكنهم تلاعبوا بعقولهم الصغيرة، ومشاعرهم البريئة، بل تلاعبوا بعائلاتهم واستغلوا فقرهم وعدم معرفتهم بالقوانين وأحكموا القبضة عليهم واتهموا الخمسة بالجريمة، وسرعان ما تم الحكم عليهم بالسجن من قبل هيئة ظالمة عنصرية من المحلفين، أربعة منهم كانوا تحت السن وتم ترحليهم إلى سجن الأحداث وقضوا المدة بالكامل بكل ما فيها من صعوبات، وخرجوا ليجدوا الكل يتنكر لهم، خسروا فرصة التعليم، واحترام المجتمع لهم، وعجزوا عن إيجاد فرص عمل محترمة، منهم من خرج ليجد نفسه بالشارع، ومنهم من خرج ليجد نفسه فى سجن أكبر مدانًا طول الوقت، الجميع يتعامل معهم على أنهم مغتصبون وقتلة. ولا أحد يتعاطف معهم مهما حاولوا التأكيد على إدانتهم ظلمًا.

أما كورى سيئ الحظ والذى لم يكن مطلوبًا بالأساس، فنظرًا لكونه الأكبر سنًا وقت ارتكاب الجريمة، تم ترحيله إلى سجن البالغين، وهناك ذاق الأمرّين، تعرض للضرب بوحشية، جدير بالذكر أنه فى السجون الأمريكية يعتبر المغتصبون هم أقذر فئات المساجين فما بالك بطفل أسود مدان باغتصاب ومحاولة قتل امرأة بيضاء، سواء كانوًا حراسًا أو سجناء، الجميع يصب جامّ غضبه على المدانين بالاغتصاب، مما نتج عنه تعرضه لثلاث محاولات للقتل من سجناء آخرين نجا منها بأعجوبة، حتى حراس بعض السجون التى انتقل بينها حاولوا دفع المساجين لقتله، عاش كورى معظم أيام السجن فى زنزانة الحبس الانفرادى، ليس لسوء سلوكه، لكن بطلب منه تفاديًا للأهوال التى رآها،علمًا بأن الحبس فى تلك الأماكن وحيدًا لفترة طويلة يصيب الدماغ بضرر كبير، ويؤدى لسماع أصوات ورؤية هلاوس، وهو ما حدث لهذا المسكين منذ دخل السجن فى عام 1989 حتى اكتشفت براءته هو وأصدقاؤه فى عام 2002.

فى عام 2002 قام أحد السجناء المدانين بالقتل وبعد جلسة مع أحد القساوسة ممن يطلق عليهم «قسيسو» الاعتراف – باتخاذ قرار الاعتراف رسميًا بأن الجريمة التى اتهم فيها الأطفال الخمسة والمشهورة باسم جريمة السنترال بارك - هو من قام بارتكابها، وأقر بأنه تمكن من الفرار فى الوقت المناسب، وبمضاهاة الحمض النووى تم التأكد من صدق اعترافه وأطلق سراح كورى أخيرًا، حيث كان أصدقاؤه الأربعة قد خرجوا من دار الأحداث قبل ذلك بفترة لانتهاء فترة محكوميتهم.

رفع الخمسة قضية على الولاية وفى عام 2014 تم الحكم لهم بتعويضات كبيرة، وقرر أربعة منهم الخروج من البلاد لمكان آخر يشعرون فيه بالأمان والحرية إلا كورى الذى رغم كل ما مر به، قرر البقاء وإقامة العديد من المشاريع فى بلدته وأصبح واحدًا من رجال الأعمال المعروفين، ولكن مازال يعانى من بعض الأمراض الجسدية والنفسية الخطيرة جرّاء تعرضه لتلك التجربة القاسية.