الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

ملك القطن وذكريات مع طلعت حرب

«طلعت حرب هو الذى استطاع بإرادته أن ينشئ بنك مصر، وينشئ أول صناعة مصرية صميمة وأن يحقق أرباحا مجزية لمساهميه ويكتسب احترام الرأى العام. رجل مصرى أعطى لبلاده جهدا سوف يذكره التاريخ».. جمعتنى بطلعت حرب علاقات وطيدة، فلقد  كنت من المعجبين به أشد الإعجاب والمحبين له أشد الحب.



صاحب هذه الكلمات هو «محمد أحمد فرغلى» باشا ملك القطن وواحد من أشهر وأمهر رجال الأعمال والرأسمالية الوطنية فى زمن الحكم الملكى. 

فى عام 1984 أصدر «فرغلى باشا» مذكراته البديعة «عشت حياتى بين هؤلاء» الذى لاقى رواجًا هائلًا من كل الأقلام وقتها، وعبر صفحاته تحدث عن مئات الشخصيات السياسية والحزبية والاقتصادية التى عرفها وتعامل  معها عن قرب وكان من بينهم «طلعت حرب» بطبيعة الحال. 

يقول «محمد أحمد فرغلى باشا» : كانت أول مرة التقيت به فيها، لم أكن قد تعديت الثلاثين من عمرى عندما ذهبت إلى مكتبى فى الثامنة صباحا فوجدته فى انتظارى حيث بادرنى بالقول : إنك لم تأت لزيارتى،  وهأنذا أبادر بزيارتك !

فشعرت بالخجل وقلت له :  إن الذى منعنى هو كبر مركزك !

وكانت جلسة ممتعة حدثته فيها عن مشروعاتى،  كما حدثنى بإفاضة عن تجربته، وكان آخر عمل تعاونا فيه هو مساهمتى معه فى إنشاء شركة كفر الدوار..

وللأسف الشديد لم يسجل «فرغلى باشا» بعض ما جرى من حوار بينهما، لكنه يتذكر موقفا آخر قائلا: لقد أتيحت لى الفرصة أن ألتقى به وأسافر معه فى وفد إلى لندن، كما ساهمت معه فى إنشاء بعض الشركات.

كانت مهمة هذا الوفد توطيد العلاقات وخاصة الاقتصادية مع الحكومة البريطانية وتكون الوفد من حافظ عفيفى باشا وطلعت حرب باشا وصادق حنين باشا وكيل وزارة المالية السابق ويوسف النحاس بك» ويقول «فرغلى باشا»:

«بقيت بعثتنا هذه فى لندن لمدة شهر نزور المراكز المالية والصناعية والتجارية وتحاول أن تعقد الاتفاقيات لإقامة بعض الصناعات فى مصر. 

وكان من نتيجة هذه الزيارة مساهمة الإنجليز فى إنشاء بعض المؤسسات مثل شركة مصر للتأمين وشركة البيضا وكانت من أنجح الشركات المساهمة مع الإنجليز».

أما خارج نطاق العمل فقد حدثت بعض المواقف الطريفة ربما يكون من المناسب حكايتها كما يقول «فرغلى باشا» ومنها مثلا حسب كلامه :

تحدد لنا موعد لمقابلة جلالة ملك بريطانيا العظمى «جورج الخامس» وبدأنا نستعد لهذا اللقاء، وكان من لزوم لقاء الملك ارتداء قبعة سوداء عالية.

وذهب أعضاء الوفد لشراء القبعات، وبعد أن التقينا فى الفندق سألتهم عن سعر القبعة فقالوا أنه خمسة جنيهات !فقلت لهم لقد اشتريتها بمبلغ جنيهين ونصف!!

وعندما تأملوا القبعة وجدوا أنها مثل قبعاتهم تمامًا، فسألونى عن المحل ؟ فقلت لهم اسم المحل، وكان أشهر محل لبيع القبعات فى لندن، فدهشوا ولم يصدقوا قولى،  وعندما استفسرت منهم قال «طلعت حرب»:

•إنك لا تقول الحقيقة لأننا اشترينا قبعاتنا من نفس المحل، فكيف تحصل عليها بأقل من السعر الذى اشترينا به قبعاتنا؟!

وأصروا على الذهاب معى إلى المحل، ودخل «حافظ عفيفى» و«طلعت حرب» كلاهما إلى المحل وبقيت فى الخارج، وعندما سألا البائعة عن سعر قبعتى فأكدت لهما أن سعرها هو2.5جنيه! وعندما استفسرا منها عن سبب التخفيض أوضحت لهما السبب، وهو أن هذه القبعة كانت معروضة فى الفترينة، وهى القبعة الوحيدة التى جاءت مناسبة لمقاسه !! ونحن نقدم المعروضات بتخفيض 50 % لأنه ربما تكون قد تأثرت بالشمس اثناء عرضها!!

وضرب «طلعت حرب» كفا بكف وقال لى: أؤكد لك أنك محظوظ، وأنك ستبقى محظوظًا طوال حياتك !!

ومن المواقف الطريفة التى حدثت خلال هذه الرحلة أننى دعوت أعضاء الوفد إلى  سهرة فى صالة الطعام الفخمة للفندق، وبعد انتهاء العشاء قُدمت لى الفاتورة، وكان ذهولى عندما رأيت أن المبلغ قد وصل إلى رقم مائة – فى حوالى سنة 1935- يعد مبلغًا ضخما، وأسقط فى يدى فالمبلغ لم يكن فى جيبى مثلما لم يكن فى تقديرى !

وقلت للمتر: هل يمكنك أن تضع الحساب على رقم حجرتى وأعطيته رقم الحجرة وعرض «حافظ عفيفى باشا» أن يساعدنى فى الدفع لكننى شكرته، وعندما ذهبت فى اليوم التالى لأدفع الحساب فوجئت بالمدير يبلغنى بأن الحكومة البريطانية أعطت تعليمات بعدم أخذ النقود منا، لكننى عبرت عن إصرارى على الدفع لضابط الاتصال المرافق، الذى اتصل بدوره بوزارة الخارجية البريطانية ثم أبلغنى أن وزارة الخارجية تعتبركم ضيوف حكومة جلالة الملك طوال فترة إقامتكم، وأنه لا أمل فى محاولتى أن أدفع!

عندما علم «حافظ باشا» و«طلعت باشا» أصرا على أننى كنت أعرف ذلك مسبقا وإلا لما دعوت أعضاء الوفد، وعبثا حاولت أن أدافع عن نفسى دون فائدة فقلت لهما القول المصرى  المشهور :ياما فى السجن مظاليم!

فرد علىّ «طلعت باشا» قائلا : وياما خارج السجن مجرمون!!

 ويمضى «محمد أحمد فرغلى باشا» فى مذكراته إلى أن يصل إلى تشكيل حكومة «على ماهر باشا» فى أغسطس سنة 1939 فيقول :

بعد تشكيل الوزارة بأسابيع قليلة حدث حادث أثر كثيرا فى نفسى. هذا الحادث هو إقصاء «طلعت حرب باشا»عن إدارة بنك مصر وشركاته!

اتصل بى ذات يوم من القاهرة قبل تنحيته وقال لى: لقد وضعت باسمك مائة ألف جنيه كمؤسس فى شركة كفر الدوار، ولم أتردد لحظة واحدة فى الموافقة رغم علمى أن الظروف لم تكن مناسبة نتيجة للحرب – العالمية الثانية – وبعد سنوات كان هذا المبلغ أربعمائة ألف جنيه!

لقد عانى بنك مصر كما عانت غيره من المؤسسات الاقتصادية أزمة مالية طاحنة خلال مرحلة الثلاثينيات، ولم تكن هذه الأزمة مقصورة على مصر، بل إنها الأزمة المالية التى طحنت العالم كله قبل الحرب العالمية الثانية.

وحاول مجلس إدارة البنك الخروج من هذه الأزمة، لكن حدثت خلافات داخل المجلس، مما دعا الحكومة السابقة – حكومة محمد محمود باشا – إلى عرض مساعدتها لإخراج البنك من أزمته، لكن «طلعت حرب» بإصراره المعروف أصر على أنه سيخرج من الأزمة دون أن يكلف الحكومة أية أعباء! بل إن البنك الأهلى فى اجتماع مجلس إدارته وكنت أحد أعضائه عرض محافظه الإنجليزى تقديم مساعدة ثلاثة ملايين جنيه إلى بنك مصر لإنقاذه من أزمته، والغريب أن بعض أعضاء المجلس من المصريين عارضوا فى تقديم هذه المساعدة وأذكر أن المحافظ الإنجليزى قال لهم: إن نجاح بنك مصر فى الخروج من أزمته هو نجاح لنا جميعًا، وأن فشله سيعرض الاقتصاد المصرى إلى كارثة محققة وهذا يعد فشلًا للبنك الأهلى فى القيام بواجبه.

وعندما أتت الوزارة الجديدة استدعى «حسين سرى باشا» بصفته وزيرًا للمالية «طلعت حرب باشا» وأبلغه أن الحكومة مضطرة للتدخل لحل أزمة البنك حرصا على مصلحة المساهمين فيه، وفى شركاته، وأنها – أى الحكومة – ترى أن الحل هو فى استقالة «طلعت حرب» وإذا لم يفعل ذلك ستجد الحكومة نفسها مضطرة إلى سحب ودائعها فى البنك !!

ويعلق «محمد أحمد فرغلى باشا» على ما جرى  بقوله :

وإنى لأتصور مقدار الذهول والألم اللذين ألما بالرجل الكبير حين سماعه هذا التهديد، وخرج طلعت حرب يفكر فى الأمر، وما كان بمحب للمنصب، أو حريصا على البقاء فيه، لكن عز عليه أن يعامل بمثل هذه المعاملة بعد أن أمضى ما يقرب من عشرين عاما يبنى هذا الصرح الشامخ.

لم يكن يتصور أن تسحب الودائع فيهتز كل ما بناه، لذا آثر الانسحاب فى هدوء ليحل محله «حافظ عفيفى باشا»

ولقد خامرنى شك فى أن «على ماهر باشا» كان وراء هذا القرار يدفعه  إلى ذلك إبعاد «حافظ باشا» عن منافسته فى المجال السياسى!!

وأخيرا يقول «فرغلى باشا» : إن «طلعت حرب» فى إدارته لبنك مصر وشركاته كان ديمقراطيًا إلى أقصى الحدود خاصة فى مناقشات الجمعيات العمومية، وأذكر أن مناقشات بعض هذه الجمعيات كانت تستغرق أكثر من خمس ساعات أحيانا، وتوجه فيها الانتقادات إلى «طلعت حرب» الذى كان يتقبل ذلك بصدر واسع، كما أنه كان شديد الحرص  على أن تتخذ القرارات بالإجماع ونادرا ما كانت تتخذ بالأغلبية !

وكما أن لكل عظيم أخطاء، فقد كان من أخطاء «طلعت حرب» إنه لا يحسن اختيار معاونيه ومديريه فى أغلب الأحيان، كما أنه توسع بسرعة شديدة للدرجة التى تسببت للبنك فى أزمته الشهيرة التى انتهت بإخراجه من البنك !

إن طلعت حرب باشا كان حريصًا على أن يكون المساهم فى شركته مصريًا، كما كان يشعر بأن مصالح الشركة الخاصة ومصلحة المساهمين فوق كل اعتبار.

وذمة طلعت حرب باشا لم تكن أبدًا موضع شبهات، لذلك كان إقبال المساهمين على شركات بنك مصر كثيفًا.

وللحكاية بقية