الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

على طريق إعادة اكتشاف «نحن»

ذكرنا فى أسبوع فائت أن عملية التصدى للهويات البديلة والمنتحلة من أجل تثبيت العقيدة المصرية تحتاج إلى عمل ليس سهلًا أو هينًا.



 

قد يبدو هناك تناقض بين هذا الطرح وما تم تأكيده سابقًا بأن الهوية المصرية مثلها مثل صرح ثابت لكن التناقض يختفى عندما نجد هذا الصرح رغم رسوخه ومتانته يلفه ضباب الهويات البديلة والمنتحلة وهذا العمل الذى نقصده من التصدى يشير إلى إزالة هذا الضباب الكئيب فيعود من جديد سطوع الذات المصرية متخلصة من أدران شوائب علقت بها على مدار عقود. 

 

هناك طرق متعددة يمكن اتخاذها والسير عليها من أجل هذا العمل غير السهل، نجد أنفسنا فى ميدان متشعب الاتجاهات نسأل أنفسنا أى الطرق نختار حتى لا نضيع أثمن ما فى الحياة وهو الوقت.

 

أجد أن الطريق المفتاح هو الاستكشاف، نعم يجب أن تكون البداية هى اكتشاف هذه الهوية ومعالمها وما هو أصابها من ضرر وبعد إزالة هذا الضرر نعظم من قوتها وعند نقطة التعظيم نسأل أنفسنا كيف نستحضرها الآن فى قرن متلاحق الأحداث العلمية والسياسية ويموج بالتحولات الكبرى.

 

يأتى سؤال الاستحضار بداية لطريق آخر فهذه الهوية التى ستعطينا العقيدة الراسخة ليست ممتدة الصلاحية فما استحضرناه منها فى بداية القرن العشرين وحقق نهضة ملموسة حتى خمسينات القرن الماضى يحتاج إلى إعادة تأويل لسببين.

 

أول هذه الأسباب.. حجم الضرر الذى أصاب جسم الهوية المصرية نتيجة للضباب الشرس أو الهويات البديلة والمنتحلة التى التصقت بهذا الجسم، تمثل هذا الانتحال والاستبدال فى الأصل المصرى بالعروبة السياسية ذات التبعات الجسام على مستوى قرار الدولة، وكان الاستبدال الأخطر عملية الأسلمة الاجتماعية التى وضعت المجتمع تحت قيود الخرافة وأورثته عداءات وصلت إلى العداء مع الأصل والذات والتاريخ.

 

ثانى الأسباب أن الهوية ليست كتلة صلبة بل هى تتمتع بمرونة كبيرة وتتشكل حسب معادلة الزمن الذى تتواجد فيه وطبائع البشر الذين يعيشون هذا الزمن ويجب أن تتفاعل مع احتياجاتهم المستقبلية وتلبى حاضرهم حتى لا تتحول إلى حجر ثقيل معلق فى جسم المجتمع يجذبه إلى ماض سحيق لم يعد متناسبًا مع الحاضر ولا يمتلك قوة دفع للمستقبل. 

 

قبل أن نعود إلى طريق الاستكشاف الذى هدفه إزالة الضرر وتعظيم المقومات الإيجابية للهوية يجب أن نقف عند توضيح هام لنفرق بين تفاعل الهوية المصرية مع محيطها العربى وما نقصده بالعروبة السياسية ورسوخ الدين والتدين فى المجتمع المصرى وبين عملية الأسلمة الاجتماعية التى كان لها غرض سياسى فى عنوانها ويصل إلى درجة اختطاف المجتمع إلى مناطق الخرافة والظلام فى تأثيرها الفعلى. 

 

تتميز طبيعة الأمة المصرية بأنها أمة متفاعلة مع كافة الثقافات الوافدة عليها حتى لو كان هذا الوفود حادثًا نتيجة لاحتلال فهى بقدرتها وخبرتها التاريخية تستطيع احتواء الثقافة الوافدة ثم بلورتها فى قالب مصرى خاص بها لتصبح بعد ذلك ثقافة مصرية خالصة حتى أن أصحابها الأصليين قد يأتون إلى الأرض المصرية لأجل استلهام هذه الثقافة الجديدة فى صيغتها المصرية. تأتى الأمثلة كثيرة فى التاريخ المصرى القديم والحديث على هذه الحالة من الاحتواء والبلورة والصياغة ومن هذه الأمثلة الحالة العربية فقد ترسخت اللغة العربية فى مصر وأصبحت مصر ليست فقط حاضنة لهذه اللغة بل قامت الماكينات المصرية الحضارية كعادتها بالاحتواء والبلورة والصياغة فصنعت حضارة عربية متجددة مركزها الحواضر المصرية.

 

فعلت مصر هذا الأمر مع ثقافات سابقة كاليونانية وهذا الفعل المستمر على مدار التاريخ أعطى للمصريين اللبنات التى تم من خلالها تأسيس المفهوم الحضارى المصرى للعالم من خلال هوية مصرية أصيلة تستخدم الوافد الذى تم استيعابه فى تجدد الدماء داخل الجسم الأصيل.

 

يعتبر هذا التجدد أسلوبًا معتادًا فى عمل المفهوم المصرى الحضارى لكن فى حالة العروبة السياسية التى ظهرت فى أواخر أربعينيات القرن العشرين وترسخت فى خمسينياته وستينياته لم يكن هناك تجدد أو إضافة بل تم طمس الهوية المصرية لصالح هوية منتحلة وبديلة بقوة القرار السياسى. 

 

فمنذ دخل العرب إلى مصر قامت الأمة المصرية بدورها الحضارى المعتاد وأصبحت مركز إشعاع للثقافة العربية مثلها مثل ما سبقها من ثقافات لكن بظهور العروبة السياسية ارتهنت الهوية المصرية الأصيلة للبديل ووصل الأمر للإخفاء الكامل عند لحظة تمكن هذا الانتحال، فلأول مرة منذ ما يزيد على خمسة آلاف عام يختفى اسم مصر من العالم، مصر الأمة التى سبقت التاريخ فى وجودها وأهدت البشرية فكرة الدولة وبدلًا من مصر نجد اسمًا منتحلًا قائمًا على اتحاد وهمى غير مفهوم فتتحول مصر صانعة التاريخ الموغلة فى الحضارة إلى «الجمهورية العربية المتحدة» وبهذا الاسم وصل الانتحال إلى ذروته. تجد هناك من يبرر هذا الانتحال الفج بواقع أن هذا الانتحال يزيد من نفوذ مصر وجزء من أمنها القومى وهذا التبرير يفقد قوامه لأسباب عدة منها أن المحيط العربى الذى توحده اللغة وتتنوع فيه الثقافات والأعراق لا يحتاج إلى الانتحال لكى تمارس مصر دورها كاملًا فهى تقود هذا المحيط منذ قرون من خلال إسهاماتها الحضارية ولا تحتاج إلى انتحال سياسى يلزمها بما يؤثر على مصالحها الاستراتيجية القائمة على هويتها وعقيدتها المصرية.

 

عند نقطة الأمن القومى يجب أن نتوقف قليلًا عند الجغرافيا، فالأمة المصرية ثابتة فى جغرافيتها منذ وجدت على هذه الأرض وهذه الجغرافية تحدد أمن مصر القومى قبل أى انتحال سياسى، بديل فمصر الأمة ثم الدولة تعرف جيدًا ماهى دوائر أمنها القومى والذى نظن أنها لم تتغير لسبب بسيط وهو أن الجغرافيا ثابتة. 

 

عندما اتجهت القوة المصرية شمالًا أو جنوبًا شرقاً أو غربًا قبل آلاف السنين من أجل حماية أمنها القومى أو تعزيزه لم تتحرك تحت رايات الانتحال والهويات البديلة بل تحركت تحت أهداف رايات واضحة معالمها وجلية فى ما تريد تحقيقه وهذا الوضوح والجلاء قائم على الهوية والعقيدة المصرية ولا تنتظر مصر من ينتحلها هوية سياسية مشوهة لتعرف حقيقة أمنها القومى وكيف تحميه وتعززه.

 

يقوم التبرير الفج بعمل أكثر انتحالًا متعلق بالتاريخ بعد انتحاله للحقيقة الجغرافية الثابتة الواضحة فهو يقوم بإلغاء التاريخ المصرى الممتد لآلاف السنين ويقرر اختصار هذا التاريخ الممتد ويحصره فى بضع سنوات لا تتعدى الثلاثة عقود كأن التاريخ المصرى بدأ فى منتصف القرن العشرين بهذا الانتحال والهوية البديلة وما سبقه من حضارة مجرد تمهيد لهذه السنوات العجاف فى عددها ومحتواها.

 

تسبب هذا الانتحال والتبديل على المستوى الجغرافى والتاريخى فى ظهور هذه العروبة السياسية التى لم تزد فى الإسهام الحضارى المصرى تجاه محيطها العربى المتشارك فى اللغة والمتنوع بأعراقه وثقافته بل على العكس حمل القرار المصرى بتبعات وعداءات قيدت انطلاقه وأخرجته من رحابة الفعل الحضارى الراعى لكل المحيط الذى يمتد حول مصر ولا يقتصر على المفهوم العربى المنتحل سياسياً. 

 

تقدم رحابة الفعل الحضارى الذى هو عين الهوية والعقيدة المصرية إمكانيات مهولة لحركة الأمة المصرية ولا تحد حركتها بانتحال سياسى ضيق يحولها إلى حارس مجبر أن يدافع عن مفهوم منتحل وبديل ويمنعها من أن تكون راعية بحضارتها وتسامحها وكزموبوليتينيتها لكل التنوع العرقى والثقافى الذى يموج به هذا المحيط من حولها.. وما زلنا على طريق الاستكشاف.