الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

ليس بالخطاب الدينى وحده.. نتغير

يستطيع رجل الدين، الإسلامى أو المسيحى،إقناع الأسرة المصرية بتنظيم الأسرة والاكتفاء بطفلين فقط،  من خلال خطاب دينى بسيط وأدلة مقنعة تقول: «أن تنظيم الأسرة حلال».  كانت هذه الفكرة، منذ ما يقرب من ثلاثة عقود، ومازالت، تشكل الدافع الأساسى لوزارة الصحة والسكان لتنفيذ برامج تدريبية تستهدف رفع مهارات رجال الدين الإسلامى والمسيحى فى الدعوة فى مجال تنظيم الأسرة. وقد أتيحت لى فرصة ثمينة، أن أشارك فى إعداد وتنفيذ أحد هذه البرامج فى مدينة الإسكندرية.



 

 

وفى إحدى الدورات التدريبة التى خُصصت لشيوخ وقساوسة من الصعيد، تكلمت معهم عن أهمية النظر إلى الأساس الاقتصادى والاجتماعى الذى يدفع الأسرة إلى إنجاب عدد كبير من الأطفال. وأن التفسيرات الدينية المحافظة والمتشددة هى الداعم الثقافى الأول لكل الأفكار المنتشرة حول أهمية العزوة، وأن كثرة عدد الأطفال ثروة، وتفضيل الذكور على الإناث، وتحريم وسائل تنظيم الأسرة. وبالتالى فإن دورهم مهم وأساسى فى تصحيح هذه المفاهيم الخاطئة.

 

 وهنا تصدى لى الشيخ محمود، رجل فى بداية الأربعينيات، يبدو عليه مهابة ووقار علماء الدين وصلابة وقوة أهل الصعيد، وقال فى هدوء: «الأمر ليس بهذه السهولة التى تتكلمين بها، ورجل الدين وخاصة فى القرية لا يستطيع أن يتكلم بسهولة ويعارض ما يعتقد أهل قريته أنه جزء من مصالحهم أو عاداتهم وتقاليدهم، لأنه بذلك قد يُعرض نفسه لخطر نقص شعبيته ورفض الناس له».. وفى إطار الوحدة الوطنية، وافق القس مرقص على رأى الشيخ محمود، خاصة أنه يخدم فى كنيسة تقع بقرية مجاورة لقرية الشيخ محمود. وبالطبع انضم لهما باقى المشاركين من الشيوخ والقساوسة. وأصبحت أنا «فى ورطة حقيقية».. الموقف الذى قاده الشيخ محمود كان يتحدى  الفكرة الأساسية التى قامت عليها برامج تدريب رجال الدين، ليس فقط فى موضوع تنظيم الأسرة، ولكن فى موضوعات اجتماعية وتنموية كثيرة أخرى مثل مكافحة التدخين وتعاطى المخدرات، والحفاظ على البيئة، وترشيد استهلاك المياه، ودعم السياحية الأجنبية، ومناهضة العنف ضد المرأة، وحماية حقوق الطفل، وتعزيز قيم احترام وقبول التنوع والاختلاف...إلخ. حيث يعتقد أغلب المعنيين فى الحكومة والمجتمع المدنى بهذه القضايا، فى أهمية ووجود خطاب دينى قادر على إقناع الناس وتغيير أفكارهم وسلوكهم. الأمر الذى يدفعنا لمناقشة جادة حول: هل الخطاب الدينى يستطيع تغيير الناس؟؟

 

الخطاب الدينى وحده لا يستطيع التغيير

 

الملاحظات الواقعية والتحليل النقدى حول دور رجال الدين فى تغيير أفكار وسلوكيات الناس يثبتان أن رجل الدين – مهما كان يحمل خطابًا دينيًا تقدميًا ومستنيرًا- لا يستطيع وحده إنجاز هذه المهمة ما لم تتوافر البيئة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية المناسبة لذلك.  وأن التحديات التى تواجه رجل الدين فى أداء مهمته كثيرة وعلى رأسها: أن رجل الدين هو ابن بيئته، وأن جزءًا  كبيرًا من تكوينه الثقافى والدينى قد استمده من الثقافة المجتمعية التقليدية المحيطة به، ومن المؤسسات التعليمية الدينية الرسمية ( المسيحية والإسلامية)التى يغلب عليها الطابع المحافظ والحذر من كل تجديد. ناهيك عن انتشار المصادر غير الرسمية للتعليم الدينى والتى تتسم أغلبها بالفكر والتفسيرات المتشددة.. تؤدى الأوضاع المعيشية والاقتصادية المتواضعة لرجل الدين، خاصة فى الريف، إلى ضعف قدرته على معارضة سلوكيات أهل قريته ودعوتهم إلى التغيير.  وقد اعترف لى أحد الشيوخ ذات مرة فى البرنامج التدريبى أنه رغم اقتناعه بخطأ زواج الأطفال وانتهاكه لحقوق البنات. فقد قام بتزويج إحدى قريباته، الطفلة ذات الخمسة عشر عامًا، من ابن عمها ذى الثلاثين عامًا بعقد عرفى، خاصة أنه يمتلك فدانين من الأرض الزراعية، ومن الأفضل الاحتفاظ بهما فى إطار الأسرة. إضافة على حصوله على مبلغ جيد من المال لإبرام عقد الزواج العرفى وصبغه بالصبغة الشرعية.

 

تكامل الفعل مع الخطاب 

 

حقيقة الأمر، أن الاعتماد الأحادى على رجال الدين وتغيير الخطاب الدينى فى الأغراض المجتمعية والتنموية هو نوع من التبسيط، لا يتفق مع التحديات التى تواجه المجتمع المصرى لإنجاز مهمة التنمية المستدامة.. والبداية الصحيحة هى التحليل المتكامل للقضايا المجتمعية والتنموية، وفهم الأبعاد الاجتماعية والثقافية الدينية والاقتصادية لها. وأساس الحل ليس الخطاب الدينى، وإنما سياسات وبرامج اقتصادية وتعليمية وصحية متكاملة الأبعاد، قادرة على تغيير واقع المواطنين، ودفعهم إلى تنمية حقيقية. ويتكامل مع هذه البرامج خطاب ثقافى مدنى يدعم المواطنين بالمعرفة الموثقة، فى كافة المجالات المعرفية، وبالمنهج العلمى فى التفكير والنقد، ويساعد كذلك على تنمية الحس والتذوق الفنى والجمالى لديهم،  من خلال نشر الفنون الراقية والشعبية الأصلية. ومن محصلة ما سبق تتوفر بيئة مناسبة لخطاب دينى تجديدى.