الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

العقيدة المصرية

ريشة الفنان: مصطفى رحمة
ريشة الفنان: مصطفى رحمة

توقفت فى الأسبوع الماضى عند نقطة محددة وهى الخاصة باستعادة الهوية المصرية وختمت بسؤال عن النظرة المصرية لمحيطها وفق مرجعية هذه الهوية. 



«بالتأكيد نحن استعدنا الجزء الأكبر من هذه الهوية بعد ثورة الـ30 من يونيو وبدأ يظهر أثرها فى واقعنا الاجتماعى بتدرج متصاعد، وعندما يمتد هذا التدرج إلى القرار الاستراتيجيى فسنجد العقل النقدى العلمى هو ما يحدد توجهاتنا لأن الحضارة المصرية بكاملها قائمة على هذا العقل. 

باستلام الهوية المصرية دفة القرار الاستراتيجى سيحدث تحول فى النظرة المصرية إلى محيطها الإقليمى والدولى ونبدأ فى إدارة تحالفات تخدم وتعظم هذ الهوية، وأيضًا سنعيد النظر فى علاقات أثرت بشكل أو بآخر على روح هذه الهوية. 

لكن نعود لسؤال آخر ما شكل هذه النظرة المصرية لمحيطها الإقليمى والدولى القائمة على الهوية المصرية؟ وكيف يمكن إعادة النظر فى التحالفات والعلاقات وفق مرجعية الهوية ؟  

قبل الإجابة على هذا السؤال يجب أن نسير قليلًا مع مفهوم هذه الهوية حتى نصل إلى تعريف يوضح الى أى مدى يمكن لها التأثير فى مجريات الأمور وكانت فارقة فى القرار السياسى والاجتماعى، وأنها ليست إطارًا نظريًا ينتهى بمجرد الحديث حوله.  

 تعتبرالهوية هى فهم وإدراك للمشترك الذى يجمع مكونات الأمة التى استقرت على هذه الهوية، هذا الفهم والإدراك يتأسس عليه تنظيم أوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية تشكل حركة الأمة تجاه نفسها وتجاه الآخر. 

بمعنى آخر فهذه الهوية تتحول إلى أسلوب حياة ترتضيه هذه الأمة وتتناغم معه وتعمل على استقراره ويتوارثه أبناؤها حتى يتحول إلى عقيدة حاكمة للفرد فى توجهاته. 

لا تتشكل هذه الهوية فجأة أو فى بضع سنين، بل يلزم لها مدى زمنى تراكمى وتفاعل مستمر مع مقوماتها الأصيلة، ومع الروافد الخارجية، وهذا الخارجى قد يضيف الى الأصالة بما هو فيه من فائدة وقد يطرح تحديات على المقومات الأصيلة ويدفعها الى التجدد والتجديد. 

حصلت الهوية المصرية على المدى الزمنى الأطول فى التاريخ حتى تتشكل وفى نفس الوقت جابهت تحديات مع الكثير من الروافد الخارجية مما جعلها فى هذا الزمن الممتد لآلاف السنين تقوم بعمليات إضافة وتعديل لمقوماتها حتى وصلت لمرحلة استقرار متين عنوانه عقيدة مصرية فريدة ومستقلة خاصة بمصر والمصريين. 

وصول هذه الهوية إلى هذه الدرجة من الاستقرار لا يعنى أنها لم تتعرض إلى أنواع من الإخفاء أنها مثل الصرح الثابت فى موقعه والمحدد فى معالمه ولكن لفه الضباب فى وقت ما فبقى مكانه ثم ضاعت معالمه واختفى الطريق إليه بفعل هذه الهجمة الضبابية لكن بمجرد زوال هذا الضباب الطارئ ستظهر المعالم ونبدأ فى العودة إلى الصرح بعد أن تتبين لنا ملامح الطريق 

فى أوقات متفاوتة لف هذا الضباب الطارئ هويتنا، وفى حالة التيه تلك اتجهنا إلى هويات بديلة تعتبر من الروافد وليست هى الصرح الثابت فى مكانه، ودائمًا كان الصراع بين الأصيل الذى هو هويتنا والبديل. 

هذا البديل إما فرض علينا قصرًا لوجود محتل يريد جعل البديل مكان الأصل كما حدث فى فترة الاحتلال العثمانى البغيض، أو ذهب المحتل فأغوانا التيه لأسباب سياسية متوهمة فظننا أن البديل الزائف يمكن أن يقوم بدور الأصل ويقود حركتنا لكن للأسف زادنا الزائف تيهًا وبعدًا عن الأصل. 

لم ينشأ هذا الصراع من فراغ أو كان مجرد جدل نظرى بين نخب تبحث عن موضوع تستهلك به وقتها، نشأ الصراع لأن نتيجته تقرر مصيرنا المستقبلى عن طريق التأثير فى قرارنا السياسى والاقتصادى والاجتماعى والثقافى أى كما قلنا يغير من أسلوب حياتنا ونظل نحن المصريون أو ننتقل إلى سؤال كارثى يطاردنا من نحن؟ 

فى أحد خطابات الرئيس الراحل جمال عبد الناصر عقب نكسة 1967 تحدث عن تحرير سيناء من الاحتلال الإسرائيلى وملخص ما قاله أن استرداد سيناء هو عملية سهلة ولكن سيكون مقابله التخلى عن التزامنا العربى وقبول شروط أمريكية وإسرائيلية وأن الموضوع ليس هوالجلاء عن سيناء وحدها، الموضوع أكبر من كده هو أن نكون أو لا نكون؟ 

استطاعت الأمة المصرية بشعبها وقواتها المسلحة العبور فى السادس من أكتوبر 1973 من ظلام النكسة إلى نور النصر، ثم أكملت طريقها سلامًا فاستردت كامل أرضها وفى طريق السلام الواضح والشاق غير السهل عرضت مصرعلى العرب المضى معها لكنهم ساروا وراء الإرث المشئوم من ضلالات الفاشيست ومزايدات الرفاق الذى تحدثنا عنه فى أسابيع ماضية فبقى الاحتلال للأراضى العربية. 

ظن بعضهم أنه الأذكى بعد رفض السير مع مصر فى طريقها الواضح فما كان له سوى فتات أوسلو. 

نعود هنا الى الكلمة التى قالها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر فى هذا المقطع من خطابه وتحديدًا الموضوع أكبر من كده هو نكون أو لا نكون ؟ تطرح علينا هذه العبارة سؤالين ما الموضوع الأكبر من استرداد كامل أرضنا المحتلة ومن هم الذين يكونون أو لا يكونون؟ 

ما نفهمه للإجابة على السؤال الأول أن الموضوع الأكبر من تحرير الأرض المصرية هو الالتزام العربى ونحن من أجل تحرير سيناء خضنا حربًا بل ملحمة عسكرية بكل المقاييس من أجل استرداد جزء من هذه الأرض ثم رأينا فى طريق السلام الحل لاسترداد بقية الأرض وفى نفس الوقت لو ارتبطنا بهذا الالتزام العربى الرافض لطريق السلام بسبب تبعيته للإرث المشئوم فماذا نفعل هل نترك أرضنا رهينة لأحتلال استيطانى حتى يقرر الأخوة العرب الالتزام بالتزامهم معنا؟ أم نقرر خوض حرب وراء حرب حتى تفنى كل موارد الأمة المصرية ثم نبحث عن الأخوة الملتزمين فلا نجدهم؟ 

عند السؤال الثانى نستطيع أن نعى كيف قررت مصر لحظة السلام وأيضًا نصل للنقطة الأخطر وهى عندما يحل البديل مكان الأصل فى الهوية لأسباب سياسية متوهمة فيضيع منا الطريق وحقنا. 

عندما نسأل من هم الذين يكونون أولا يكونون ؟ هل الإجابة نحن المصريون أم أى هوية أخرى بديلة ومنتحلة؟ بالتأكيد لو كانت إجابتنا نحن مصريون فسنعمل بكل الطرق لاسترداد أرضنا حربًا وسلامًا ولن نربط أنفسنا بهوية بديلة تحت مسمى العروبة أو الالتزام العربى ترى ما تراه على حساب بقاء أرضنا تحت سيطرة الاحتلال.. والحمد لله كانت إجابتنا نحن مصريون فاستردينا أرضنا كاملة. 

وجهنا إلى أنفسنا نفس سؤال من هم الذين يكونون أو لا يكونون ؟ فى لحظة تاريخية ثانية وفارقة لحظة ثورة الـ30 من يونيو ولكن ضد هوية أخرى بديلة ومنتحلة تحت مسمى الأسلمة حاول الفاشيست الإخوان فرضها طوال عقود باسم الدين والدين منهم براء.  ظنوا أن غرضهم تحقق بتسللهم للسلطة لكن بمجرد أن ظهرت مصطلحات العشيرة وأفعال التقسيم الطائفى والمذهبى كان الرد بالثورة والإجابة الجامعة نحن مصريون أولًا.. بعضنا يذهب للمساجد وبعضنا يذهب للكنائس. 

فى اللحظات الفارقة من تاريخ الأمة المصرية ينقشع الضباب وتتحدد معالم الصرح وملامح الطريق وتصبح بوصلتنا عقيدتنا المصرية، والحقيقة أن مع بدايات القرن العشرين كانت هذه العقيدة المصرية أستعادت وجودها وبدأت تعمل، ثم بدأت الهجمات الشرسة من الهويات البديلة لأغراض سياسية متوهمة أو قصدًا من أجل إخفاء الأصل مرة باسم الأنتماء العروبى أو الدينى وهو ما تصدى له تيار الهوية المصرية برفض هذا الانتماء المنتحل لأن العقيدة والوجود المصرى سابق على الاثنين. 

 يبقى الأمر الأهم هو كيف تتحول هذه الاستعادة للعقيدة المصرية والتصدى للهويات البديلة إلى منهج عملى دائم ولا نلجأ إليهما فقط فى اللحظات الفارقة من تاريخنا؟ وهى إجابة تستحق العمل عليها.