الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

إخناتون غبار النور

عظيمة يا مصر يا أرض النور والتنوير .. يا مهد الفنون والعلوم، يا قدس الأقداس.. يا أرض إخناتون وآمون وإيزيس وأوزوريس يا أرض الإله حتحور إله الفن والحب عند قدماء المصريين.. ذلك ما شعرت به عندما شاهدت عرض إخناتون – غبار النور للمخرج وليد عونى وهو عرض مسرحى راقص أحد أنواع العروض المعاصرة بالعالم فى عالم الرقص اليوم.. وعرض إخناتون يعد عرضًا فنيّا ثقافيّا سياسيّا من النوع الراقى،  حرية التعبير فى أرقى صورها.. عرض يجمع ما بين الماضى بجماله والحاضر بقساوته.



فى ليلة واحدة وفى ساعة واحدة نسترجع معا تاريخنا ماضينا وحاضرنا. ليس فقط تاريخ مصر بل تاريخ شعوب منطقة الشرق الأوسط

نسترجع حالنا بين ما كنا عليه وما أصبحنا فيه.

اختار وليد عونى مصر والحضارة الفرعونية؛ لأهميتها وقوتها بين حضارات العالم لتكون مدخله لتقديم رؤيته الفنية والسياسية فى عرض مسرحى راقص..

نقد ثقافى فنى بلغة المسرح الراقص على موسيقى وسينوغرافيا رائعة  لا يوجد بالعرض أى استعراض أو إبهار بالشكل الاستعراضى المعروف. لكنها حالة من حالات الإبداع الذهنى المتمثل فى شكل عرض مسرحى راقص، وتلك النوعية من العروض لن تجد من ينتجها فى أى دولة بالمنطقة سوى مصر لقدرتها على تفهم واستيعاب ما هو جديد من أشكال الفنون المعاصرة بالعالم.

ومفهوم المعاصرة فى الفن لا يطلق حسب الترتيب الزمنى فقط.

إنما هى طريقة التناول والمعالجة للعرض الذى يقدم.. وكيفية استخدام معايير جديدة قد تكون مثيرة للجدل.. تلك الخطوة المعاصرة الفنية الجديدة التى تخطت حدود أنواع الفنون المختلفة شجعت مصممى ومبدعى الرقص على الاتجاه بشكل أكبر وأوسع فى استخدام أنواع فنون متعددة ومختلفة فى العرض الواحد. فأصبحت أحد سمات الأعمال المعاصرة، حيث نجد النص الكلامى والرقص الدرامى واختلاف المقطوعات الموسيقية توظيف للديكور والإضاءة بصورة درامية معبرة تخدم العمل الفنى.

فوجدت نفسى أثناء العرض انتقل فى حالة روحانية إلى معابد مصر القديمة دون أن أدرى رغم أن العرض بدأ بإخناتون يوجه رسالة من رسائله للعالم اليوم. ومن عالمنا اليوم انتقلنا بمنتهى السلاسة إلى الماضى. أخذنا المخرج وليد عونى إلى عصر قدماء المصرين.. فوجدتنى فى معابد قرنه بين ملوك وملكات مصر القديمة.. حيث كان يدعو إخناتون إلى توحيد الإله... والتى بسببها تم تدمير تل العمارنة لتعارض مصالح كهنة آمون مع إخناتون. فالمُلك أصبح بيد شخص واحد بعد أن كان يتشارك فيه مجموعة من الكهنة بواسطة مجموعة من الآله... فوقع صراع دينى ساسى أدى إلى دمار إخناتون ومعابد إخناتون بتل العمارنة.. وفجأة ينقلنا المخرج وليد عونى بسخريته المعهودة إلى عصرنا الحالى فنرى أمام أعيننا إخناتون وهو يتحول إلى مواطن معاصر بزيه المعاصر يرتدى نظارة شمسية ليحتمى من أشعة الشمس التى كان يدعو لعبادتها. كذلك كل ملوك الفراعنة أمثال نفرتيتى ونفرتارى اللذين تحولا إلى أفراد من شعب مصر المعاصرة وشعوب منطقة الشرق الأوسط، سعداء بالفرنجة يرقصون على ألحان غربية يرتدون أزياء معاصرة فرحين باستهلاك منتجات الحضارة الغربية المعاصرة.. غير منتبهين لما يحاك لهم.. فتحولوا إلى شعوب تموت فى البحار بسبب الهجرة غير الشرعية. كما أصبحوا لاجئين بين دول العالم حُفاة عراة بلا مأوى ولا وطن.. رؤية مؤلمة لواقع صعب مرير تحياه شعوب المنطقة فى العصر الحالى.

فى عرض درامى حركى مسرحى سياسى راقص بلغة معاصرة.. عرض يمكننى أن أسميه السهل الممتنع حينما تشاهده تعتقد أنك يمكنك إخراجه بسهولة أما الحقيقة أنه من شدة تركيبه أصبح سهلًا بسيط الفهم لجمهوره.

بالتأكيد كان علىّ أن أتحاور مع المخرج وليد عونى بعد العرض.. فلقد عملت معه منذ وصوله للعمل بمصر لأول مرة.. وها هو حوارى معه:

وليد.. لماذا لم تعد تهتم بالتكوينات الحركية كما كنت بالماضى؟

ــ فأجابنى: لم تعد الحركة تهمنى كما كنت بالماضى. فبطل العرض عندى هو معنى وروح العرض وحرية التعبير عن فكرة العرض. أما التكوينات الحركية الجميلة فلم تعد تعنينى مطلقًا الآن.

ألا تخشى ألا يعجب المشاهد بعروضك؟

ــ أنا أصمم تلك العروض أولًا لنفسى.. هى فكرة وحالة لا بد أن تخرج منى فى صورة عمل فنى، وتلك الفكرة اختزلها بداخلى منذ فترة وجاء الوقت لخروجها على خشبة المسرح.

لماذا لا تستخدم راقصين أجانب بفرقتك وعروضك؟ رغم أنك مخرج مشهور حاليًا وإذا طلبت استقدام راقصين أجانب للعمل معك لن يرفض طلبك..

ــ هذا حقيقى لكنى محتاج إلى الروح المصرية بعروضى،  أحتاج إلى أجسام مصرية.. أنا لا أبحث عن إمكانيات جسدية خارقة أو مثالية كما بالرقص الكلاسيكى.. هذا مسرح راقص أحتاج فيه إلى كل أشكال وأحجام البشر.. بالإضافة إلى أننا نقدم دار الأوبرا المصرية بهذه العروض داخل مصر وبمختلف دول العالم بالمهرجانات والمسابقات العالمية والمحلية. فيجب أن يكون الفنانون مصريين ليمثلوا مصر. ولقد اكتشفت مواهب جديدة فى هذا العرض فالراقص (على يسرى) الذى قدم دور إخناتون هو قريب الشبه جدا من تمثال إخناتون، وهو خريج معهد الباليه بأكاديمية الفنون، ويعمل بفرقة باليه أوبرا القاهرة، لكن لم يتم توظيفه بالطريقة الفنية التى وظفته بها.. ومن الطبيعى أن نجد بين المصريين أشباه لملوك وملكات مصر القديمة فأنتم أحفاد الفراعنة.

ولماذا أظهرتنا لاجئين فى آخر العرض؟ فالمصريين ليسوا لاجئين فى منطقة الشرق الأوسط؟!

ــ هذا حقيقى الحمد لله مصر بخير، ونحن جميعا نحتمى بها. لكنى أولًا وأخيرًا إنسان أعيش بالمجتمع العالمى وأعاصر الأحداث العالمية من خلال نشرات الأخبار وكل مواقع التواصل الاجتماعى، وتأثرت كثيرًا بما يحدث للعديد من دول الشرق الأوسط وشاهدت الطفل الذى وجد جسده ملقى على شواطئ البحار فى أشد صور العالم قسوة وكان علىّ أن أقدم هذا المشهد الصادم الذى صدمنى بل وصدمنا جميعًا على خشبة المسرح.. حتى لو كنت أقدم عرضًا عن تاريخ فرنسا كنت سأضع هذا المشهد الصادم للإنسانية، حتى ينتبه العالم لما يحدث من مأسٍ بشعوب منطقة كانت يومًا ما مهد الحضارات الإنسانية.. وأخيرا أنا دائمًا ما تراوضنى فكرة الموت لأن لكل شىء نهاية، فنحن نعيش طوال الوقت نهايات صغيرة ومتكررة فى حياتنا اليومية فكنت محتاجًا أن أعبر عن تلك النهاية فى واقعنا المعاصر.. واجهنا المخرج وليد عونى بواقعنا فى عرض مسرحى درامى سياسى راقص.. منتج فنى ثقافى لن تنتجه إلى بلد كمصر لديها قوى ناعمة تُقدر وتشجع حرية الفكر المستنير والفن والإبداع..إنها حرية التعبير فى أرقى صوره. وتلك وظيفة الفن فى المجتمع.