الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

العودة إلى مستقبل مينا هاوس

فى نوفمبر 1977ذهب الرئيس السادات إلى القدس ليبدأ طريق السلام الصعب والخطر والذى لا يقل فى خطورته عن طريق الحرب، استطاع الرجل بجلد وشجاعة ومهارة تحمل عبء وأخطار الحرب والسلام حتى لقى ربه شهيدًا.



حقق السادات النصر بقوة السلاح فى أكتوبر وانتزع الأرض المصرية كاملة من العدو الغاصب بصلابة الموقف فى المفاوضات التى تحمل ضغوطاتها المفاوض المصرى بصبر وعزم لا يلين.

كانت كلمات السادات بخطابه الشهير فى الكنيست الإسرائيلى واضحة لا لبس فيها فهو لم يأت من أجل استعادة الحق المصرى فقط بل الحق العربى كله وفى قلب هذا الحق القضية الفلسطينية.

"إننى لم أجئ إليكم لكى أعقد اتفاقًا منفردًا ليس هذا واردًا، فأى سلام منفرد بين مصر وإسرائيل لن يقيم السلام الدائم العادل فى المنطقة، إننى لم أجئ إليكم من أجل سلام جزئى ننهى فيه حالة الحرب فى هذه المرحلة ثم نرجئ المشكلة برمتها إلى مرحلة تالية فليس هذا هو الحل الجذرى هناك أرض عربية احتلتها ولا تزال تحتلها إسرائيل بالقوة المسلحة ونحن نصر على تحقيق الانسحاب الكامل منها بما فيها القدس العربية (..) ليس من المقبول أن يفكر أحد فى الوضع الخاص لمدينة القدس فى إطار الضم أو التوسع (..) ليس هناك من ينكر أن قضية شعب فلسطين هى جوهر المشكلة وإذا كنتم قد وجدتم المبرر القانونى والأخلاقى لإقامة وطن على أرض لم تكن كلها ملكًا لكم، فأولى بكم أن تتفهموا إصرار شعب فلسطين على إقامة دولته من جديد فى وطنه".. هذه كانت كلمات السادات داخل الكنيست ولا تقبل المزايدة فهو يطالب بحل شامل قائم على السلام العادل وفق ظروف الواقعية السياسية " إننى أعلن للعالم كله أننا نقبل بالعيش معكم فى سلام دائم وعادل، وقد أعلنت أكثر من مرة أن إسرائيل أصبحت حقيقة واقعة اعترف بها العالم وحملت القوتان العظميان مسئولية أمنها وحماية وجودها".. عقب الزيارة التاريخية إلى القدس وخطاب الكنيست الواضح والصارم فى مفهومه حول تحقيق سلام عادل وشامل وفق الواقعية السياسية دون مزايدات وعنتريات، دعت مصر إلى مؤتمر لوضع أسس السلام العادل والشامل وكان تاريخه بعد أيام قليلة من زيارة القدس وتحديدًا فى 15 ديسمبر 1977 بفندق مينا هاوس تحت سفح الهرم. . تم توجيه الدعوة إلى الأمم المتحدة. الولايات المتحدة. إسرائيل. الاتحاد السوفييتي. الأردن. سوريا. لبنان. منظمة التحرير الفلسطينية، بالإضافة للدولة الداعية وهى مصر، لم يحضر إلى مينا هاوس من المدعوين سوى الأمم المتحدة والولايات المتحدة وإسرائيل وظلت مقاعد العرب والاتحاد السوفيتى سابقًا شاغرة حتى الآن.

مرت على دعوة مينا هاوس 43 عامًا اختفت فيها إمبراطوريات وصعدت أخرى وذهبت أنظمة وتفككت دول، وقامت دول، ثم ندم من ندم، على عدم قبول الدعوة، واستردت مصر أرضها كاملة وبقيت القضية الفلسطينية تراوح مكانها من بين غطاء أوسلو وانتهازية الفاشيست الإخوان ومن ورائهم.

أما السلام العادل والشامل الذى سعت إليه مصر فى شجاعة وصدق حملة المزايدين والانتهازيين وكهنة النضال إلى خزانة الماضى ليحموا مكاسبهم الشخصية على حساب دماء الشعب الفلسطينى.

بعد 43 عامًا من كل هذه التغيرات على كافة المستويات الإقليمية والدولية هل يمكن تحرير دعوة مينا هاوس من أسر الماضى الثقيل المطبق على صدر الوطن العربى والذى صنع مفرداته للأسف المزايدين والانتهازيين وكهنة النضال؟ هل يمكن بالفعل تحرير دعوة مينا هاوس من أسر هذا الماضى البغيض وفتح آفاق لها فى مستقبل قائم على العقل والرؤية الواقعية وننهى المزايدة والانتهازية والكهانة؟

تبدو دعوة التحرير تلك غامضة وغريبة فى ظل الظرف السياسى المؤلم الذى يمر به الوطن العربى وأقرب للاستحالة، لكن روح السادات المقاتلة تعطينا درسًا هامًا تنفى فيه كلمة الاستحالة من قاموس الأمم التى تريد تغيير واقعها وواقع العالم حولها فقد أطاح السادات بهذه الاستحالة يوم أن اتخذ قرارى الحرب والسلام.

لن يترك المزايدون والانتهازيون والكهنة دعوة التحرير تمر بسهولة بل سيبثون روح التشاؤم والإحباط ويعددون نقاط الضعف ويحاولون إلهاءنا عن نقاط القوة التى نمتلكها وتسمح للعرب بفرض السلام العادل والشامل.

سيقولون لنا إن إسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة لن تتنازل عن شيء فلا داعى للمحاولة يريدون بتعمد أن يعموا بصرهم وبصيرتهم عن تجربة مفاوضات السلام من أجل الحفاظ على مكاسبهم الملطخة بدماء الفلسطينيين.

 لا تعود الحقوق المسلوبة بالمزايدة بل بمفاوضات شاقة وإصرار على انتزاعها من سالبيها وإدارة واعية لما نمتلكه من رصيد قوة وعلاج أوجه الضعف.

سيروجون بأن الفاصل الزمنى بين نصر أكتوبر المجيد ومينا هاوس، كان سنوات معدودات مما أعطى لمصر صاحبة الدعوة ميزة تصب فى صالح قوتها، أما الآن فالفاصل تحول إلى هوة، يسقط هذا الترويج الأبله أمام منطق الحقائق فانتصارات الأمم ليست ذكريات طائرة بل هى مخزون خبرات يستدعى فى لحظة الخطر ومصر التى صنعت النصر بعقول ودماء أبنائها فى أكتوبر وأهدته للعرب قادرة بإيمانها وثبات موقفها على صنع ألف نصر مماثل.. ليست أزمتنا أنهم فاقدون عن عمد البصر والبصيرة فمصر الآن فى لحظة قوة ونصر توازى لحظة النصر المجيد فى أكتوبر.

استطاعت الأمة المصرية دحر الفاشية الدينية التى وضعها الاستعمار عقبة سوداء فى طريق تقدمها وتحررت من العوز بخطة إصلاح اقتصادى واجتماعى هى الأضخم فى تاريخها وثبتت الدولة ولم تكتف بالتثبيت، بل انطلقت لتطور من وظائفها لتصبح الآن دولة قادرة على إعطاء جانب كبير من الرفاه إلى مواطنيها.. أين مصر الآن من مصر أزمات السلع الغذائية البسيطة والطوابير وانهيار البنية التحتية فى عقود ماضية؟

لم تكتف الدولة المصرية باجتياز خط العوز على المستويين الاقتصادى والاجتماعى بل هناك الأهم على المستوى الإنسانى وهو استرداد الهوية المصرية الأصيلة لتكن بوصلة مرشدة للقرار السياسى بعيدًا عن غوغائية  الفاشيست وإجرامهم وإرهابهم والذين حاولوا طمس هذه الهوية لتحقيق أغراضهم الشريرة.. أين مصر الآن من مصر التى كان يرتع فيها شيوخ الفتنة بلا رقيب ولا حسيب ويطلق الإرهابيون رصاصتهم ويفجرون قنابلهم فى شوارعها الآمنة؟

إذًا مصر الآن أكثر قوة ومنعة من مصر الماضى، يستمر الترويج المضلل بأن الغرب بشقيه الأوروبى والأمريكى يقف صفًا واحدًا خلف إسرائيل ولن يكون منصفًا، الوقائع الجارية الآن غير ذلك تمامًا، تشهد إسرائيل أكثر أوضاعها حرجًا مع هذا الغرب ويكفى أن من طرح خطة سلام هو الجانب الأمريكى، ويسعى فيها، فأما طرحها لأنه يرى خطرًا يحيط بإسرائيل من قوة جيرانها العرب أو لأسباب أخرى يراها من خلال مجريات الوقائع التى تحدث داخل مجتمعه سواء الأوروبى أو الأمريكى؟

نذهب إلى الأمر الثانى أى الوضع المتأزم بين إسرائيل والضمير الأوروبى والأمريكى، وهناك مثالان يوضحان حجم هذه الأزمة الملحة والتى تدفع متخذ القرار السياسى فى أوروبا وأمريكا للتحرك سريعًا من أجل إنقاذ الحليف الإسرائيلى من عدوانيته وغطرسته.

نشأت حركة المقاطعة لإسرائيل (BDS) فى عام 2005 عن طريق عدد من المنظمات غير الحكومية الفلسطينية والآن ترى إسرائيل فى فعاليات هذه الحركة الخطر الأكبر على وجودها لأنها امتدت طوال 15 عامًا فى أوروبا والولايات المتحدة وتفرعت منها حركات أخرى تقف ضد العدوانية الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطينى وعلى رأسها حركة المقاطعة الأكاديمية لإسرائيل (PACBI) وهى تضم نخب العقول الأوروبية والأمريكية فى أشهر الجامعات وأعرقها والحائزين على جائزة نوبل ومئات من المثقفين والفنانين والطلبة المطالبين بوقف العدوان الإسرائيلى وإقامة دولة فلسطينية ويرفضون التعاون مع المؤسسات الإسرائيلية أو زيارة إسرائيل.

دفع حجم المقاطعة إسرائيل أن تحفز كل أجهزتها السياسية والأمنية لمواجهة هذا الخطر الوجودى خاصة أن المتبنين لهذه الحركات كثير منهم يهود مقيمون فى أوروبا والولايات المتحدة ويرون فى الصهيونية والسياسات الإسرائيلية الخطر الأكبر على مستقبل اليهود. فى أواخر أكتوبر من العام الماضى عقدت حركة ( جي ـ ستريت ) الأمريكية مؤتمرها السنوى وهى تأسست فى العام 2007 ويرأسها  جيرمى بن عامى وهو يهودى وتهدف الحركة منذ تأسيسها إلى إنهاء الصراع العربى الإسرائيلى والحفاظ على إسرائيل وإقامة دولة فلسطينية.

حضر مؤتمر جي ـ ستريت قيادات فلسطينية منهم صائب عريقات وحضرت أيضًا قيادات أمريكية على رأسهم مرشحى الحزب الديمقراطى فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية عدا بايدن أن ما قيل فى المؤتمر وما صدر عنه من بيانات يوحى لك أنه عقد فى دولة عربية وليس الولايات المتحدة فبيت بودجيج المرشح الفائز فى الانتخابات التمهيدية الرئاسية للحزب الديمقراطى بولاية أيوا وبيرنى ساندرز والسيناتورة إليزابيث وارن، كلهم طالبوا بإنهاء الاحتلال الإسرائيلى ووقف الاستيطان وضم أراضى فلسطينية جديدة لإسرائيل واتهموا حكومة نتنياهو بأنها عنصرية والأهم وقف المساعدات الأمريكية لإسرائيل لأنها دولة احتلال ولم تلق دعوات السياسيين الأمريكيين اعتراضًا بل وجدت ترحيبًا من شريحة كبيرة من المجتمع الأمريكى واليهودى الأمريكى المؤثر فى صناعة القرار السياسى.

دفع الواقع المأزوم فى الضمير الأوروبى والأمريكى والشعور بالذنب  الاتحاد الأوروبى قبل أسابيع إلى إصدار بيان عدم اعترافه باحتلال إسرائيل للأراضى الفلسطينية التى احتلتها عقب 1967.. هذا هو الصف الواحد الذى يروج المزايدون والفاشيست أنه يقف خلف إسرائيل ولماذا يروجون؟ حتى تبقى القضية الفلسطينية ومعاناة الفلسطينيين مورد استرزاق لهم ولهذا تجد الفاشيست يحولون القضية من قضية عادلة لشعب يريد التحرر من الاحتلال إلى صراع دينى حتى يعزلوا القوى الأوروبية والأمريكية المناصرة لحق الشعب الفلسطينى ويستمر استرزاقهم وجشعهم للسلطة.. طرح الأمريكيون خطتهم للسلام ولكن هل هذا الطرح مقدس؟ بالتأكيد لا، ولكنه يحتاج إلى قتال المفاوض المدرك لحقائق قوته والكاشف لرؤية سياسية تخرجه من يأس الاستحالة، فلو استمع السادات وفريق التفاوض المصرى لمهاترات المزايدين أو غضب من تعنت الإسرائيليين وترك مائدة المفاوضات أين كنا الآن؟

تقف مقاعد مينا هاوس الشاغرة حجر عثرة أمام المستقبل وهذه المقاعد حسب الوضع السياسى الإقليمى والدولى الحالى تحتاج أن يشغلها أصحابها وينضم إليها مدعون جددًا بعد 43 عامًا سار فيها الوطن العربى وراء المزايدين ومحترفى النضال والفاشيست فكانت إسرائيل هى المستفيد الوحيد.. وجهت مصر المنتصرة دعوة مينا هاوس الأولى ومصر المنتصرة والقوية الآن تستطيع صياغة السلام العادل والشامل واسترداد الحق الفلسطينى وإنهاء تشرذم وطننا العربى المنكوب بمزايديه ومدعى النضال وإجرام الفاشيست ..

إنها لحظة تاريخية تفصل بين البقاء فى يأس الاستحالة أو الانطلاق إلى آفاق مستقبل نبنيه بأيدينا، ما يمنحنا الثقة أن الأمة المصرية حرفتها الأولى صناعة التاريخ وعبور الاستحالة حتى تستقر بأهدافها العادلة والنبيلة على ضفاف مستقبل مشرق نرجوه جميعًا.