ناجي شاكر أبو العروسة والعريس
مني ثابت
لأن الكتاب مهم ورائع، فلا يزال يبحث عن ناشر!! ولم تتنازع شرف نشره وزارة الثقافة مع كلية الفنون الجميلة!! الكتاب الموسوعة، هو دفتر ذكريات الكلية ومغامرات أولادها الذين يحتفلون بميلادها الثامن بعد المائة.. موسوعة عنوانها «أوراقي وما بينهما» جمع فيها ناجي شاكر شجرة عائلة الفن، بعين وأنامل شاهد فنان عاشق، غارق في حب الوطن والفن لشوشته.. راصد لتفاصيل العمر، كبواته وأفراحه.. هو ذاكرة حية نابضة امتد إعداده لزفاف المطبعة سنوات، لكن أبو العروس ينشد كمال الفرح!!
الكتاب بلا بداية ولا نهاية، إنما رحلة غوص ونوافذ تتلصص على إبداعات كنوز الفنون الشائعة والمتخصصة.. تلتقط إشراقة الضوء التي تنشر الفرح، وتصور الشجن الإنساني، وتنتزع مباهج الحياة بكل الوسائط، من التصوير إلى التشكيل إلى العرائس.. يحكى الكتاب عن بدايات كلية الفنون الجميلة بالزمالك، زمان يا سادة يا كرام، كانت مصر زهرة تتفتح في أرض خصوبتها طمّعت فيها العالم، فتناوب عليها كل قادر على طرد الآخر.. احتلال يحجِبها واستعمار يستعبدها، وحكام على كل لون وعمة وطربوش.. الكل شبع من خيرها وطيابة شعبها، لكنها صمدت واقتبست منهم أحسن ما فيهم! ظهرت كلية فنون جميلة، جميلة.. تستقبل الطلبة الجدد سنويًا بحفل تنكري صاخب مثل سبوع المولود، تشترط على كل منهم استعراض قدراته الفنية.. وكان سكان حي الزمالك هم جمهور الاحتفال المنتظر في الشوارع.. اختار الطالب المستجد ناجي شاكر التنكر في زي مربية تجر عربة أطفال تحمل طفلة- هي أصغر طالبات الكلية حجما ألبسها ناجي ملابس المولود-.. أما شقيقه الطالب إيهاب شاكر فتنكّر في شكل مهرج.. وفورًا شق الشقيقان طريقهما الفني متفردين في تنوع إبداعاتهما وثرائها، وجرأتها في ولوج أعماق الإنسان وكشف أسرار الوجود، وتصوير أشجان وأفراح الإنسان، وشحنه بالأمل.. عشق ناجي العرائس، صممها وألبسها وذوّقها وكلمها كثيرًا، حتى تقاسما الروح والأحاسيس وذابا عشقًا، وظلت عرائسه تسحبه إلى عالمها الساحر رفقًا به من سخافات الواقع كلما مال الحال.. يدخل ناجى ويغلق الباب، فيتحرر ويسترد حبوره، ويبدع ما يدهشه هو أكثر منا!! وسائط فنية جريئة تسمو بالروح.. أقرأ بروفة كتاب حياة ناجي الذى هو نفسه مشوار الفن فى مصر فأشتاق لوطنى، تنشط ذاكرتى وأسمع الماضى ألحانًا.. أنشرح وتفارقنى صورة تلاميذنا ضحايا مسئولين يجب إعدامهم قبل تطبيق قرار أن الفنون اختيارية وبلا درجات!! بمعنى أن يتجرعوا العلم علقمًا يتقيأونه!!
مرقت بين فروع الياسمين أطرق باب ناجى لإعادة بروفة الكتاب، بلا مقدمات دخلت عالمه المسحور.. ارتفعت بنا خشبة المسرح- الأتلييه- إلى سماوات رحبة.. نحلق على أطراف أمواج فنية يتصاعد وهجها.. يضىء ناجى شاشة الكمبيوتر لإيقاظ «رايحانة» أعز الأبناء بطلة مسرحية «حمار شهاب الدين»، تطل مصرية خجولة رشيقة صابرة راضية، ثرية المشاعر، نبيلة، يستبقيها ناجى فخرًا وونسًا واعتزازًا.. رقتها تسمح لفيروس الفرح بالانتشار، تفتح لى نوافذ المدينة الفاضلة -حلمى العصى- ونتراشق بالزهور والألعاب والأحلام، لأن ناجى شاكر الفنان يحتفظ خلف نظارته وملابس الكبار بناجى الطفل عاشق الألوان والشقاوة وفسحة العجلة مع إيهاب- شقيقه وتوأمه الروحى- فى الشوارع الآمنة زمان.. وهو طالب الفنون الجميلة المُدهش المندهش حتى بعدما أصبح أستاذًا عذابه غرام، لكونه صديقًا نمكياً ومستشارًا مخلصًا غيورًا، لن يقبل من المبدعين إلا المستحيل.. فيثمر أجيالاً لكل فرد منها مذاق خاص متفرد مثل الفنان محسن رفعت.. يعيش ناجى فى واحة الزوجة «فيرا» التى ما عادت أجنبية، محاطًا بدفء أولاد بلد جسدهم عرائس تتكلم وتغنى وتحيا، تنزوى أسفًا، لكن لا تنهزم ولا تموت.. يشاغبونه ويشاركونه كل مراحل إبداعه المتجدد، رغم أنف مسئولين عن الثقافة والفن هم موظفون بطربوش ودفتر حضور وانصراف، ولائحة جزاءات وبلح أمهات.. خاصموا الفن جهلاً أو قهرًا فتجهموا وكأبونا.. دعونا ننساهم أو نتجاهلهم لحين يصدح الكروان.. هيا نعود للمرفأ، مرسم ناجى ومضيفتى «رايحانة».. وشخوص تطل من كتاب حياته وحياتنا، تقاطع بعضها بحكاياتها الطريفة، تثرى أرواحنا بالفرح والأمل.. يطل «عبد البديع» أشهر نحاتى الكلية زمان لموهبته، ولتمسكه بالتواجد ليل نهار.. كان طباخ هدى هانم شعراوى، اكتشفت موهبته، وبتشجيعها نحت أروع الأعمال التى تزين حديقة وأروقة الكلية.. يأتى بالبنات، أشهر الموديلات «جليلة وسميحة وعطيات» فى زمن كانت الحواس ترتقى بالفن.. وتطل لوحة «حب تحت المطر»، حيث قبض ناجي على لحظة لقاء عاشقين تحت المطر فى فينيسيا، جسدها بالجواش لوحة يتلاحم فيها أطياف بشر ومطر وضوء هو رسم الحب.. بانوراما الكتاب تتهادى فى الخمسينيات، كانت البدايات مناخًا صحوًا أثمر حوريات وجنات.. مسرحية «حلم ليلة صيف» لشكسبير فتحت لناجى عالم العرائس، فاختار مشروع تخرج إيهاب شاكر مسرحية «عقلة الأصبع»، أعد السيناريو والديكور ورسم العرائس ونفذها ليؤرخ التراث الشعبى.. وبفضلهما تأسس أول مسرح عرائس للكبار فى مصر عام 1959 بفضل مسئول مثقف هو «على الراعى».. ثم هلت «بنت السلطان» لبيرم التونسى مستوحاة من ألف ليلة وليلة.. و«الشاطر حسن» المصرى ابن البلد الفهلوى الذكى حافظ الحكم والأمثال الشعبية الغنية.. وتتفتح زهور ناجى، يشقلب زهرة لوتس إلى راقصة باليه ألانت الخيوط مفاصلها، تلتها الغولة والعفريت، والترجمان الجاهل، وكل التخت الشرقى المصاحب لعبد المطلب.. ينتقى أساطير شعبية تُنفِر من العبودية وتؤرخ البطولات، تدب الحياة فى العرائس وتحكى لنا عنا نحن المصريين، عن المشاعر والموًدة، عن القرية والحارة والمولد.. يتكلم فؤاد حداد الأراجوز «كلامنا دايما جرىء، ما يصيبش أبدا برىء».. ويكتب صلاح جاهين «الشاطر حسن» فيولد مسرح عرائس للأطفال، تتبناه وزارة الثقافة والإرشاد القومى المصري في مناخ نقى لم تلوثه الوهابية ولا تحجيب العقول.. يزدهر وعى الحكومة فيثمر «الليلة الكبيرة» البهيجة، و«مدينة الأحلام» التى لما عرفت الدنانير غشاها الحزن!! وعصفت الرياح بخريطة التوعية بالفن، وتحول مسرح العرائس بالأزبكية إلى خيال مآتة حزين، شاهد على التدهور، لا حصل فنًا للكبار ولا للأطفال.. وهرب ناجى يستنجد بالضوء وسيطًا ساحرًا يحررنا ويقودنا للصفاء.. أما العرائس حبه الأول التى بث فيها ومنها الحياة، فهى هنا في البيت شاهدة علينا وعلى أحوالنا، تهمس وتصرخ وتغنى للخير والحق والعـــدل، تصفـــق لكـــل قاضٍ وكل حاكم عادل وشجاع.. لأنها لسة حرة.•