الأحد 19 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

محاكمة صحفى عمره 14 سنة

أكتب هذه الحكايات والذكريات من الذاكرة واعتمادا على بعض ما أمكن جمعه من مواد وصور، وأترك لنفسى حرية التجوّل فى دوائر الذكرى دون تخطيط مسبق حتى أشعر براحة ومتعة لا تحققها عملية التوثيق الأرشيفية ولا يتحقق معها للقارئ ذلك الشعور بالمتعة والمؤانسة.



ومع أن الحكايات والومضات تتزاحم فى رأسى، ومع أن بعض الأسماء تختفى من شريط الذاكرة بفعل التقادم، وتشابك الأحداث والوقائع والشخصيات والمشاعر، فإن ما يهمنى أكثر هو جوهر كل حكاية أو ومضة أو واقعة.

ولأبدأ بواقعة غيرت مجرى حياتى..

 

 

 

 

كان ذلك فى عام 1961، وكنت وقتها فى السنة الأولى الثانوية، واختيرت مجلة الحائط التى صممتها وكتبت موضوعاتها مع زملاء آخرين، للمشاركة فى معرض شامل للصحافة المدرسية أقيم فى مبنى وزارة التربية والتعليم فى حى المنيرة.. كنت أقف أمام المجلة عندما مر أحد زوار المعرض وتوقف أمامها وراح يقرأ باهتمام موضوع «المصريون القدماء أول من اخترع الصحافة».. نظر إلى وسألنى: 

* من كتب هذا الموضوع؟

- أنا يا أستاذ.

* هل يمكن أن تنسخه لى على الورق.. أنا فتحى غانم رئيس تحرير مجلة «صباح الخير».. ثم توجه للمشرف الاجتماعى المصاحب لى وأوضح لنا أنه معجب بهذا الموضوع ويرغب فى نشره باسمى فى المجلة واتفقنا أن نزوره فى اليوم التالى:

ويومها دخلت مبنى المؤسسة لأول مرة وقد احتفل بى وصحبنى فى جولة للتعرف على المجلة والمؤسسة ابتداء من إحسان عبدالقدوس وكان يقدمنى للجميع: 

هذا هو زميلنا الجديد منير مطاوع، أصغر صحفى فى مصر.

كم كان عمرى وقتها 16 سنة! 

وعندما صدر عدد «صباح الخير» التالى ظهر الموضوع فى باب ابتكره فتحى غانم بعنوان «حياة جديدة» ورأيت اسمى مطبوعا فى مجلة شهيرة ومحبوبة.. ومن يومها أدمنت «صباح الخير».. كنت أشتريها وأقرأ ما فيها من الغلاف إلى الغلاف.. ولفت اهتمامى أسلوب الإخراج وفن الخطوط المبتكرة ولوحات الفنانين ورسوم الكاريكاتير والكتابات المدهشة.

 

 

 

وعندما أتممت دراستى الثانوية فى السويس حيث تعيش أسرتى لم يكن فى رأسى أى اختيار سوى «صباح الخير». 

البدايات

وعندما أعود للبدايات؟.. أتذكر واقعة طريفة ومثيرة جرت لى كصحفى قبل ذلك بسنتين، إذ تعرضت لخطر الاعتقال بسبب ما نشرته فى مجلة حائط كنت أصدرها كل أربعاء وأخططها وأرسمها وألونها وأكتب معظم مادتها، ويشاركنى آخرون أكبر منى سنا، فى عمر أبى أو أكبر.

كان ذلك فى نهاية الخمسينيات من القرن الماضى، وكنا، أسرتى وأنا، نعيش فى المدينة السكنية الفاخرة الملحقة بمصانع الشركة المصرية لصناعة الأسمدة الكيماوية (أبو طاقية) المملوكة للمليونير أحمد عبود باشا، فى منطقة عتاقة الواقعة على مسافة نصف ساعة أو أقل من مدينة السويس، خلفها جبل عتاقة الشاهق وأمامها خليج السويس الشاسع.

المدينة أنشئت مع المصانع سنة 1949 ويسكنها جميع العاملين وبجانب العمارات السكنية هناك مرافق مختلفة.. ناد اجتماعى، دار عرض سينمائى، مدرسة ابتدائية.. ملاعب رياضية، حدائق، أرض زراعية مقسمة إلى مربعات صغيرة موزعة على هواة زرع الخضر من السكان، مبنى مستقل كسوق لجميع احتياجات السكان بمحلات متنوعة، بقالة، خضر، لحوم، كوافير.. وهكذا.. وموقف للأتوبيسات التى تحمل السكان والتلاميذ إلى السويس، بجواره كشك لبيع الصحف.. وللمدينة عمدة يرتدى ملابس الخواجات فقد تعلّم فى بريطانيا وتزوج من إنجليزية ويدخن البايب ويمتلك سيارة تشبه تاكسيات لندن السوداء الضخمة.

وتتوسط مبنى السوق حديقة صيفية تحيط ببركة ماء، وتقام فيها الحفلات وتغنى فيها مطربات شهيرات ومطربون وتقدم على مسرحها عروض فنية، وعلى الحائط المجاور لمحلات الجمعية التعاونية فى السوق، لوحة عريضة بعرض مسطح مكتب كبير مغطاة بالزجاج وداخلها كنت أعلّق المجلة «صوت عتاقة».

ويشارك فى تحرير المجلة معى، مهندسون وعمال ومحامون ومحاسبون من العاملين فى الشركة، ومع أننى كنت فى الرابعة عشرة من عمرى، إلا أن هؤلاء الكبار سنا وعلما وخبرة بالحياة وبينهم والدى، كانوا يشجعوننى ويرحبون بكونى صاحب المجلة ورسامها وخطاطها ومحررها.

أحمد رمزى يشجعنى

وأتذكر الآن أن هذه المجلة ساعدتنى فى التعرف وإجراء أحاديث صحفية مع بعض المشاهير من نجوم السينما الذين كانوا يأتون إلى السويس للراحة والاستجمام والتمتع بالبحر والسباحة والغطس والصيد فى شاطئ قريب اسمه «الكابانون» تملك الفندق الوحيد المطل عليه شخصية لطيفة يحبها هؤلاء الفنانون والفنانات هو «السيد غطاس».

وكان الرجل يوافينى من وقت لآخر بأخبار من يزورون الشاطئ من النجوم والنجمات والشخصيات الأخرى، لنشرها فى «صوت عتاقة» وأتذكر الآن من هؤلاء عماد حمدى وأحمد رمزى، ومديحة يسرى وماجدة الصباحى وفريد شوقى وغيرهم كثر، وأتذكرأن أول حديث لى مع فنان شهير، كان مع أحمد رمزى الذى شجعنى ورحب بى رغم أن الحديث سينشر فى مجلة حائط. وكانت هذه الأحاديث واللقاءات مدخلا مهما فى تكوينى وإقبالى على التعامل مع الفنانين والفنانات طوال مشوارى الصحفى، وأذكر أننى كنت أحب الحصول على توقيعات هؤلاء النجوم، والتقاط الصور معهم وأحيانا ما كان يتاح لى نزول البحر فى صحبتهم وكان هناك منهم طبعا من يستخف بى وبعملى الصحفى وبمجلتى الحائطية ويعتذر عن عدم إجراء حديث صحفى معه.

نعود إلى محاكمتى، وسبب المحاكمة هو أننى بمناسبة رأس السنة أصدرت عددا خاصا من المجلة يحتوى على قصيدة زجلية طويلة كتبها والدى، وكان مغرما بالكتابة الدرامية والزجلية، تقوم فكرة القصيدة على تناول أبرز شخصيات المصانع والمدينة ووصف لهم ولأعمالهم بالمدح أو القدح، فى بيتين من الزجل.

وليس فى هذا ما يدعو لتقديمى للمحاكمة، لكن عمدة المدينة ساءه ما ورد عنه فى المجلة وهو كالتالى: عمدة بلدنا الجميلة وف عهده زاد اتساعها

ولأن الرجل إنجليزى المزاج ومتزوج من إنجليزية مترفعة ومتشنجة، ولأنه لا يطالع المجلة إلا وهى معلقة فى مكانها الثابت فى قلب السوق، فيبدو أنه تصادف أن اطلع عليها، وربما أبلغه أحد بما تحتوى عليه من نقد له. فما كان منه إلا أن أمر عماله بنزع اللوحة الضخمة وفيها المجلة والزجل الساخر، وذهب بها من فوره إلى قائد المنطقة وشكى له الأمر، فأصدر الرجل أمرا باستدعائى وذهبت بصحبة والدى لمواجهة محاكمة بتهمة السب وتعريض السلم العام لمجتمع المدينة للضرر.

ولا أعرف هل كان الرجل واسمه حسن علام يعرف أنه يستدعى للمحاكمة تلميذ إعدادى عمره 14 سنة؟ المهم أننا ذهبنا وعقدت المحكمة فى مركز عتاقة وشاهدت عمليات اعتقال وسجن أشخاص أعرفهم من سكان المدينة منهم صديق لوالدى هو المهندس إبراهيم العطار شقيق الناقد التشكيلى مختار العطار، بتهمة الانتماء لتنظيم شيوعى، وكان عبدالناصر قد قرر اعتقال كل الشيوعيين هذه السنة.

ولأننى صغير السن وبعد استجوابى وظهور حسن النية فى القصيدة بعيدا عن تهمة السب وإلإضرار بأمن مجتمع مدينتنا السكنية الهادئة، وبعيدا عن انفعال العمدة، فقد قرّرت المحكمة عدم سجنى واكتفت بأن أصدرت حكمها على بالسجن لمدة ستة أشهر مع وقف التنفيذ.

الطريف فى الأمر أن قائد المنطقة وهو نفسه رئيس المحكمة التى مثلت أمامها، أبدى إعجابه الشديد بى وشكر والدى لتشجيعه لى على العمل الصحفى، ووصفنى له بأننى فى رأيه أبدو أكبر من سنى بكثير. وحيّانى وطلب منى الاستمرار فى إصدار «صوت عتاقة» وأخبرنا أنه استطلع وكلّف معاونيه بالتحرّى حول المجلة وحولنا أبى وأنا، وأنه رفض طلب العمدة بمنعى من إصدار المجلة.

لكننى توقفت عن إصدارها لسبب آخر، فقد كان من بين القرارات الاشتراكية التى اتخذها عبدالناصر، تأميم الشركة وتسميتها «شركة النصر» ومشاركة العاملين فى إدارتها وتوزيع نسبة من الأرباح عليهم.

 

 

 

أول لقاء مع صحفى حقيقى

وبسعادة وفخر أعلن والدى فى تصريح صحفى لجريدة «الأخبار» التى بعثت بمحررها عبدالوهاب مرسى إلى عتاقة للكتابة عما حدث بعد تأميم الشركة وتوزيع الأرباح، أعلن والدى أنه سيمنحنى نصف نصيبه من الأرباح لهذا العام لكى أطوّر مجلتى وأسافر إلى القاهرة لطبعها هناك والعودة بها مجلة مطبوعة توزع على العاملين فى المصانع وسكان المدينة بمقابل رمزى.

وحتى لا أنسى فقد كان عبدالوهاب مرسى هو أول صحفى أراه فى حياتى وأتحدث إليه عن أحلامى فى الصحافة وعن إعجابى الشديد بالكاتب الصحفى على أمين، وعموده الشهير «فكرة» وكان الرجل وهو بالمناسبة والد النجم السينمائى فتحى عبدالوهاب، مندهشا من اطلاعى على الصحف ومعرفتى بكتابات على أمين، رغم صغر سنى، وأوضح له أبى أنه علمنى القراءة والكتابة وكذلك فن الخط العربى، من قبل التحاقى بالمدرسة الابتدائية، وأنه يطلعنى على الصحف يوميا، ويطلب منى قراءة ما يستهوينى فيها بصوت مسموع.

وقد أسعدنى أن عبدالوهاب مرسى كتب عنى وعن والدى فى «الأخبار» ما شجعنا على الإسراع فى تنفيذ فكرة إصدار المجلة مطبوعة والذهاب إلى القاهرة لهذا الغرض. 

وعندما قرأ المشاركون فى تحرير «صوت عتاقة» كمجلة حائط ما نشرفى «الأخبار» قرروا المساهمة ماديا وتحريريا فى المشروع الجديد.

وسافرنا بعد أن أعددنا كل المواد وخططت ورسمت العدد وجهزت كليشيهات العناوين والصور والكاريكاتير فى ورشة زنكوغراف خاصة فى السويس تبرع صاحبها بنصف أجره لصالح مشروعنا، وكانت بين الصور صورة لى: كاتب عمود عمره 15 سنة.

صالح مرسى!

 كانت مدرستى «السويس الإعدادية بنين» تصدر مجلة سنوية مطبوعة تضم مختارات مما ينشر فى مجلات الحائط التى ننفذها نحن التلاميذ بمعاونة مشرف الصحافة المدرسية وبعض المدرسين، وتنشر فيها كلمات ومقالات لناظر المدرسة وبعض المدرسين.

وفى عدد سنة 1958 على ما أذكر، كان لى موضوع عن تاريخ مدينة السويس أعددت مادته من مراجع اطلعت عليها فى مكتبة المدرسة، وكنت سعيدا بهذا البحث لسببين أولهما أنه جعلنى أعرف الكثير عن هذا البلد الذى نشأت فيه منذ انتقلنا من الإسكندرية ليعمل والدى ويشارك فى مشروع تأسيس أكبر مصنع للأسمدة الكيماوية ليس فى مصر وحدها بل فى منطقة الشرق الأوسط كلها. والسبب الثانى هو أننى رأيت أسمى مطبوعا لأول مرة فى حياتى.

وأتذكر هذا الآن لأن الموضوع لفت نظر صاحب ورئيس تحرير المجلة الإقليمية الوحيدة فى السويس، واسمه بالمناسبة لا ينسى لأنه نفس اسم الكاتب الصحفى والروائى مؤلف مسلسل «رأفت الهجان» التليفزيونى الشهير- فيما بعد والذى زاملته بعد عدة سنوات عند التحاقى بمجلة «صباح الخير» هو صالح مرسى.

فماذا فعل صالح مرسى (السويسى)؟.. 

نشر الموضوع فى مجلته وكان اسمها «الأمانى القومية».. وعندما علمت بالأمر ساورتنى مشاعر متضاربة، فقد اشتريت المجلة وأسعدنى جدا أن أرى اسمى منشورا مع مقالى فى مجلة عامة أكبر من مجلة المدرسة، فهو اعتراف من صحفى محترف وإن كان على المستوى المحلى، بأننى صحفى.. طرت من الفرح وعندما أطلعت والدى على المجلة والمقال اشترى كل ما وجده لدى البائع من نسخ ووزعها على الأهل والأصدقاء.

لكن من جهة أخرى كان لدى شعور بأن صاحب المجلة استولى على جهدى دون علمى ودون أن يعطينى أجرى، فماذا فعلت؟.. ذهبت إلى مقر «الأمانى القومية» لأطالب بحقوقى.

 

 

 

شقة صغيرة فى الطابق الأرضى فى مدخل عمارة فى قلب المدينة.. الباب مفتوح. استقبلتنى شابة تظهر عليها علامات الشيخوخة المبكرة، وترتدى ملابس شبه رثة، تجلس أمام مكتب متهالك. عرفت فيما بعد أنها نصف قوة عمل المجلة، وأنها تقوم بمهام متعددة، منها الطواف على الشركات والمحلات والعيادات وغيرها للفوز بإعلانات، ومنها كتابة الأخبار والموضوعات، ومنها استقبال الزوار، والرد على التليفونات، ومنها توزيع العدد على المحلات والمكاتب المعلنة وتحصيل ثمن الإعلانات.

كم عمرك يا منير؟

ودار بينى وبينها نقاش حول ماجئت من أجله، فحاولت إفهامى أن الأستاذ غيرموجود، ويبدو أن أحدى وظائفها أيضا أن تبعد عن رئيسها أى شخص له مطالب مالية مثلى، لكن محاولتها فشلت، فقد خرج من الغرفة التى تجلس هى أمامها، صالح مرسى نفسه ولم يكن قد سمع ماجرى بيننا فباب مكتبه كان مغلقا، وسألها عنى فقالت بعد أن رددت عبارة قصدت بها أن تحفظ ماء وجهها: كنت أظنك خارج المكتب يا أستاذ، ثم شرحت له مطلبى، فاندهش بشدة وربت على ظهرى بحنو وقال وهو يصحبنى إلى غرفة مكتبه:

- لا أصدق أن تلميذا صغيرا كتب هذا الكلام الكبير، كم عمرك يا منير؟ 

أجبته: 13 سنة وفى سنة ثانية إعدادى

عاد يسأل: وهل ساعدك أحد فى كتابة هذا البحث؟

- لم أتصور أبدا أن كاتب الموضوع المنشور فى مجلة المدرسة، تلميذ صغير.. وكان ظنى أنه أحد المدرسين الذين يكتبون أيضا فى المجلات المدرسية.

ـ ساعدتنى كتب مكتبة المدرسة التى جئت بالبحث كله منها.. والآن هل تسمح بصرف مكافأتى عن مقالى؟ ضحك بطريقة منفرة فظهرت أسنانه المتآكلة.. رجل كبير السن ضعيف البنية، بعيون شبه جاحظة، ونظرة خبيثة.. ثم قال: نحن لا ندفع ثمن مقالات يا بنى.. لأننا نكتب كل شيء.

ـ لكنك لم تكتب مقالى!

صمت وقد فاجأه انتباهى، ثم أردف: أحيانا تأتينا مقالات وأخبار من مدرسين وموظفين وقراء عاديين وغيرهم، وكلهم لا يطلبون فلوسًا مثلك، فيكفيهم فخرا أننا ننشر أعمالهم وأسماءهم فى المجلة التى تقرؤها السويس كلها.

قاطعته: لكن أنا لم أقدم لك مقالى، ولهذا أطلب أجرى.

ـ كم تريد؟

انتهت المحادثة عندما وجد صاحب المجلة نفسه مضطرا لأن يدفع لى خمسة جنيهات، وعرفت فيما بعد أن «الأمانى القومية» لا تصدر بطريقة دورية منتظمة، ولا يطبع عددها الجديد إلا عندما يتمكن صالح مرسى من جمع ما يكفى من المال لطبعه.

وعلمت أيضا فيما بعد، أنه أحيانا ما كان يستعين بعامل فى المطبعة ليهرّب له كمية من نسخ المجلة التى امتنعت إدارة المطبعة عن تسليمها له لعدم سداده باقى أجر الطباعة، وكان يذهب بنفسه بهذه النسخ إلى المحافظة والشركات والمعلنين المنشورة إعلاناتهم، ليسلمها لهم ويقوم بتحصيل أجور الإعلانات، ومن هذه المبالغ يسدد القسط الأخير للمطبعة فتعطيه الكمية المطبوعة.

الغريب فى الأمر أنه طلب منى فى النهاية أن أتعاون معه فى التحرير!

لم أتحمس للعمل مع أن الخمسة جنيهات التى وعدنى بها كل شهر كانت مبلغا معتبرا فى ذلك الوقت بالنسبة لى كتلميذ إعدادى.

وكنت فى قمة الإحساس بالسعادة، فها أنا أتقاضى أجرا عن مقال كتبته.. أنا صحفى إذن!.. رغم أننى تلميذ إعدادى فى عمر الـ 13.. خمسة جنيهات كاملة فى ذلك الزمن تساوى الآن عدة عشرات من الجنيهات.

هل كان المال السبب؟

لا أتذكر الآن التفاصيل، لكننى وجدت نفسى أتجه نحو «الأمانى القومية» بعد أيام قليلة، هل كان المال هو السبب؟ أم ما شعرت به بعدما وجدت أناسا كثيرين يحدّثون والدى ويحيوننى على مقال تاريخ السويس، فى المجلة، أم لأن مكتب «الأمانى القومية» كان يواجه الساحة التى ننتظر فيها اتوبيس الشركة كل يوم بعد انتهاء اليوم الدراسى، ليحملنا نحن التلاميذ وبعض الأهالى إلى مدينتنا السكنية فى عتاقة؟

المهم أننى كنت أكتب موضوعات وأخبارا عن نشاطات المدرسة ولأن محكمة الجنايات كانت بجوار

 

المدرسة، فقد كنت أنتهز كل فرصة لحضور بعض جلساتها والكتابة عن ما يجرى فيها من قضايا ومحاكمات، وكان رئيس التحرير وصاحب المجلة صالح مرسى، يفرح بما أقدمه له وينشره فى أول عدد ولايبخل على بمبلغ الخمسة جنيهات الذى تحوّل إلى ما يشبه أجر ثابت لى، لكنه طبعا غير منتظم شهريا بسبب عدم انتظام صدور المجلة.

فى اجتماع مجلس المحافظة

وصحبنى الرجل ذات يوم إلى اجتماع المجلس المحلى للمحافظة الذى يقوم هو بتغطيته، قال إنه تعب من هذه المهمة ولا يثق فى قدرة مساعدته على أن تحل محله ولذلك يريد تدريبى على ذلك.

وتعرّفت هناك على عدد من مراسلى الصحف الكبرى، مثل الشاب حسن غنيمة مندوب «الأهرام» ومراسلين آخرين وكذلك مراسل اسمه على متولى سويلم، وهو رجل على المعاش ويتسلى بمراسلة جريدة عريقة تصدر فى الإسكندرية هى «السفير».

وأعتقد أن سرّ تذكّرى لهذين الاسمين بالذات يرتبط بما جرى لى معهما، فالأول كان يعجبنى فيه حماسه وكثرة الأخبار التى ينشرها كل يوم تقريبا وتنوعها، من سياسة لخدمات لاجتماعيات لحوادث لرياضة وكان يطلعنى عليها منشورة بعد أن يحدثنى عنها فى اليوم السابق، ويهدينى نسخة مجانية من «الأهرام» كلما التقيته. والطريف أن ابنه عمرو غنيمة أصبح مراسل «الأهرام» من بعده.

أما عم على متولى سويلم، فقد كان رجلا طيبا، وكان مندهشا من صغر سنى وجمعى بين المدرسة والصحافة، لكنه انقلب علىّ فجأة عندما وجد جريدة «السفير» السكندرية تنشر لى رسائل صحفية من السويس، أى أننى أصبحت فى منافسة معه دون أن يدرى، فماذا فعل؟.. بعث برسالته الصحفية المعتادة ثم أرفق بها رسالة خاصة ليست للنشر، موجهة لرئيس تحرير الجريدة، يشكو فيها من ترحيبه برسائل يبعث بها ولد صغيراسمه منير مطاوع هو تلميذ فى المدرسة الإعدادية ولم يتجاوز الـ13سنة من العمر.

ووقعت سكرتارية تحرير«السفير» فى غلطة كبرى وقتها، إذ نشرت رسالة الشكوى التى يسخر فيها منى، فى ذيل الرسالة الصحفية لمراسلها العتيق على متولى سويلم.

وكانت واقعة أثارت سخرية كل من اطلع عليها فى مجلس المحافطة وبين مراسلى الصحف الأخرى.

وقد يسأل سائل: ماذا وراء رسائلك الصحفية لـ«السفير»؟.

والحكاية باختصار أننى كاسكندرانى كنت فى صحبة عائلتى فى زيارة للأهل هناك وصحبنى والدى للتعّرف على الصحف السكندرية العريقة وأولها «السفير» وعلمت وقتها أن الصحافة المصرية نشأت فى الإسكندرية أولا وكذلك السنيما، وعندما التقيت رئيس التحرير الذى ورث ملكية الصحيفة من عائلته أبا عن جد، دعانى للكتابة فيها عندما بلغه أمر نشاطى الصحفى وأطلعه والدى على بعض قصاصات بقلمى.

لكن رئيس التحرير أوضح لى أن ذلك سيكون مجرد تشجيع ودون مقابل، وقد استجبت حبا فى الإسكندرية وفى الصحيفة العريقة التى بدت لى فى حالة تشبه من يقاوم الاحتضار.