الإثنين 6 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
خطايا وجروح «روح الخلافة»

خطايا وجروح «روح الخلافة»

حدث أن سأل عمر بن الخطاب ابن عباس ذات يوم: فيما يختلف المسلمون بعدنا؟



كتابنا واحد وربنا واحد ونبينا واحد.. فعلام يختلف من يأتى فيما بعد؟

أجاب بن عباس: سوف يأتى من بعدنا أقوام يقرءون القرآن ولا يعرفون فيما نزل. فيأولونه.. ثم يختلفون فيما أولوا.. ثم يقتتلون فيما اختلفوا فيه.

 

وقد حدث. 

 فظهر الخوارج بعد معركة «صفين».. وظهرت بعدهم الفرق الإسلامية وظهر الباطنيون.. والحشاشون ومن بعدهم السبئية والكيسانية وجاء أتباع المقنع الخرسانى ثم جاء الإخوان.. فقتلوا على الرأى.. واحتكروا الدين.. وأولوا على الكيف وعلى الهوى، وقالوا إنهم يسعون لإحياء خلافة الله على الأرض.. رغم أنهم قتلوا وأحرقوا رغبة فى الحكم والنفوذ.. ليس إلا.  يقتل التطرف على الهوية.. ويقتل على اللون وعلى المذهب.

يخرج التطرف من عباءة احتكار الدين أو من محاولة احتكاره بأكثر من وسيلة. أكبر وسائل احتكار الدين كانت فكرة «إحياء الخلافة».. وأوهام «ركن الخلافة». 

إحياء الخلافة وهم.. ابتكره بعضهم ليمروا به من ثقوب المفاتيح فى الأبواب.. وصولا للحكم والسلطة والنفوذ.

هذا ما حدث تاريخيًا من أول الخوارج.. انتهاء بالإخوان المسلمون.

(1)

الإخوان المسلمون خوارج.. خرجوا عن الصف وخرجوا عن الدين، واختلفت فى تأويلاتهم المفاهيم.. حتى إنهم أراقوا الدماء التي حرّمها الله، وأهدروا النفس التي حصّنها الله.. ثم قالوا إنهم يعملون بما أنزل الله.. ولم يكن هذا صحيحًا.

لم ينزل الله الإسلام حكرًا على أحد.. ولا ملكًا لأحد. أنزل الله الإسلام دينًا للعالمين.. فمن شاء أن يؤمن ومن شاء أن يكفر.

كل امرئ بما كسب رهين.. وكل إنسان ألزمناه طائره فى عنقه.

لكن جاء التطرف وأراد به بعضهم أن يأخذوا من الدين بابًا للسياسة. لذلك خلطوا السياسة بالدين وقالوا إن كله من عند الله.

وما هو من عند الله. 

قال الحشاشون إنهم أبناء الله وأحباؤه. وقال الإخوان بعدهم نفس الكلام، لكن لا هؤلاء ولا هؤلاء قد اتخذوا على الله عهدًا. 

 لكنهم قتلوا وغلوا وأوغلوا وتوغلوا وبقروا بطن الشعوب الآمنة.. ثم نثروا ثرايا الدين على تراب الأرض وقالوا إنهم يبتغون مرضاة الله.

وكانوا كذابين.. ومخادعين.

الخلافة الإسلامية ليست فرضًا دينًيا. يعنى لم ينص عليها كتاب، ولا أقرت بها آية، لكنها أمر من أمور الدنيا.

ومنصب الخليفة ليس هو الآخر أمرًا طقسيًا دينيًا. يعنى ليس وجود الخليفة من أمور الدين، بقدر ما هو أمر دنيوى استقر عليه المجتمع المسلم فيما بعد.. لما كبرت دول المسلمين، وتفرعت شعوبها، وكثرت أعدادها. 

الخليفة منصب دنيوى إذًا.. وأمور الدنيا غير أمور الدين.

فى الشعوب الحديثة، وازى منصب الخليفة منصب رئيس الدولة. ورئيس الدولة فى الشعوب الحديثة، هو من يتوفر فيه من خصائص تجعله الأقدر على حماية الدولة، وتدبير أمور شعبها. 

لكن منصب الخليفة تحول خلال التاريخ الإسلامى، بعد خلط السياسة بالدين، غياهب طرقات وسبل أخرجته على يد جماعات التطرف عن الظرف وعن المصلحة وعن المعنى نفسه.

(2)

فى عصر النبى صلوات الله وسلامه عليه، كانت الدولة تُدار بالوحى من الله. 

كان النبى ﷺ يتكلم فى أمور الدين، فإذا لم يعرف سكت.. حتى تنزل عليه آية، أو ينزل الله سبحانه وتعالى عليه حُكمًا.

فى أمور الدين كان النبى يتكلم بالوحى، أما فى أمور الدنيا، فكان صلوات الله وسلامه عليه يتكلم بطبيعته الإنسانية.. حتى إنه إذا غم عليه أمر من أمور الدنيا، فإنه كان يفسح المجال لصحابته أن يجتهدوا.

فى المدينة.. جاء إلى النبى صحابته والأنصار يسألونه فى تأبير النخل. سألوا إذا كان هناك أوامر قرآنية فى كيفية تأبيره؟

قال النبى: أنتم أعلم بشؤون دنياكم. 

وفى غزوة الأحزاب، سأل سُليمان الفارسى هل أنزل الله أوامر أم إنها الحرب؟ 

لما أجاب النبى بأنها الحرب.. اجتهد سُليمان بحفر الخندق، ليكتب به الله نصرًا للمسلمين. 

فى أمور الدنيا اجتهد النبى واجتهد الصحابة، فكان النبى صلوات الله وسلامه عليه يدير الجماعة الإسلامية بما يأتيه من السماء، وكان مقدسا، أما فيما لم يأت من السماء فكان على المسلمين الاجتهاد فيه.. بما لا يُعارض نصا قائما ولا آية نزلت.

لم يكن النبى صلوات الله عليه وسلم خليفة للمسلمين.. إنما كان رسولًا، يأتيه من السماء رسالة.. وتدفع به أمور الدنيا إلى الاجتهاد فيما لم يرد فيه نص.

(3)

بعد وفاة النبى صلوات الله وسلامه عليه انقطع الوحى، وكان لابد للمجتمع المسلم من قائد يقوده.. ورئيس ينظم شؤونه ويدبر أموره. 

كان أبو بكر رئيسًا للمسلمين.. لم يكن أبى بكر خليفة لرسول الله بالمعنى الذي تواتر عليه مفهوم الخلافة فيما بعد.

إليك تلك الواقعة: جاء رجل إلى أبى بكر الصديق وسأله: هل أنت الخليفة من بعد النبى؟  أجاب أبو بكر غاضبًا: إنما أنا الخلف من بعده.

والخليفة غير الخلف. 

الخليفة هو من يخلف النبى فى الزمان والمكان.. فى التواجد والمكان والمكانة وفى الصفات وفى السلطات فوق الإنسانية. 

أما الخلف، فهو من يخلف النبى صلوات الله وسلامه عليه فى التوقيت فقط. 

لذلك أجاب أبو بكر: أنا الخلف من بعده. 

فلو كان أبو بكر الخليفة، لكان له أن يتلقى الوحى من السماء، ولكان له أن يأمر فيطاع بأوامر من الله، وكان له أن يسن ويشرّع، وأن تكون تلك السنن والتشريعات أمورًا واجبا على المسلمين طاعتها.

لكن أبا بكر نفسه قال: وليت عليكم ولست بخيركم «وقال ما معناه أنه لو أخطأ فعلى المسلمين أن يقوموه.. بالنصيحة.. والكلام الطيب». 

لم ينص النبى صلوات الله عليه وسلامه على خليفة للمسلمين من بعده، وواقعة اختياره لأبى بكر الصديق فيها كلام وحديث بين الدارسين. 

وحتى لو كان النبى ﷺ نص على أبى بكر خلفًا له، فما كان لأبى بكر، وهو الخلف، أن يحوذ ما للنبى صلوات الله عليه من سلطة دينية، فينص على من يتولى بعده. 

ثم جاء عمر بن الخطاب، وكان عمر رئيسًا للمسلمين بالمعنى الحرفى. ولم يناد عمر أحد من المسلمين أو التابعين إلا بـ «أمير المؤمنين»، ولم يذكر لفظ الخليفة وقتها إلا أقل القليل. وأمير المؤمنين.. غير خليفة المسلمين. 

(4)

تاريخ الإسلام طويل وعريض.. وبه الكثير من الحوادث والمطبات أيضًا. يقال إن أول من ابتكر مصطلح «خلافة المسلمين» كانوا الخوارج. أو أول ما بدأ هذا المصطلح يتداول فيه كان بعد معركة «صفين».

اكتسب مصطلح الخلافة زخمًا بالزمن، وبمرور الوقت، فى إطار الصراع على السلطة، وفى إطار التناحر بين الفرق الإسلامية المختلفة على الحكومة والحكم.

أكسب التطرف المصطلح والمعنى.. ما ليس له. ورسخ فى الفكرة معانى لم تكن له من الأساس.

وكان الخوارج أول من أقروا بأن أميرهم لا يعُصى ولا تُرد له كلمة. وأقر الشيعة بعدهم أن خليفتهم مؤيد من الله ومختار منه. 

دخل الفكر الشيعى كثيرا من تراث فارس القديم، فأصبحت روح الخليفة هى نفسها روح الله، التي تجلت فى النبى محمد صلوات الله وسلامه عليه، ثم انتقلت من النبى إلى فاطمة رضى الله عنها، ومن فاطمة، إلى علىّ، ومن علىّ رضى الله عنه إلى أبنائه من بعده. 

على اختلاف الطوائف، يؤمن الشيعة بإمام غائب، أو خليفة مستور.

والخليفة المستور تتجسد فى روحه ملامح من روح النبوة، التي انتقلت إليه بالحلول، من جسد لجسد، ومن نفس لنفس، بدءًا من نفس النبى ﷺ مرورًا بسلالة أبناء على بن أبى طالب.. حتى تصل إليه. 

والخليفة المستور، بموجب تلك الفكرة، غائب عن الزمن، يديره من غيبته على يد «قائم الزمان».

قائم الزمان هو الولى الظاهر الموجود بين جماعة المسلمين، الذي هو الآخر فيه ملمح من روح الخليفة المستور.. يستقى أوامره فى تدبير أمور الدنيا والدين منه.

لهذا.. لا يُرد لقائم الزمان كلام.. ولا يعُصى فى أمر.

فى إيران مرشد الثورة الأعلى هو قائم الزمان. ولدى الإخوان، لعب حسن البنا دور القائم بشكل أو بآخر. لذلك فالعهد على السمع والطاعة، لا يحله إلا الدم. 

فى العمل الفنى الرائع «الحشاشين» بدت الفكرة من أولها لآخرها.

فكان حسن الصباح يُدير أمور قلعة ألموت بوحى من الخليفة المستنصر، وكان الخليفة المستنصر، يُدير حسن الصباح بروح من النبوة التي هى روح من الله! 

مراحل كثيرة لعبت فيها السياسة بالدين، ولعب فيها الدين بالسياسة، ولعبت السياسة فيها بالعقول، حتى أسفرت فى النهاية عن فساد فى العقيدة، وفساد فى الإيمان، وعلل فى الإسلام فى أذهان هؤلاء. 

ثم جاءت رغبات الملك والسطوة والنفوذ لتعيد الألاعيب كلها، فتخلط المفاهيم مرة أخرى، وتجعل بين «الإمام» وبين السماء كوبري وهميا تمر عليه الأفكار، مصدقة من رب العالمين، ومحصنة بوصفها أوامر ربانية.. لا كلام فيها ولا حديث.

لعبت رغبات الملك أيضًا بالعقول وبالعقائد وبالتاريخ وهددت الجغرافيا، وامتدت فكرة الولاية من جماعات التطرف بدءًا من الحشاشين وصولًا إلى حسن البنا، فبدا فيها الأخير كما لو أنه حائز روح النبوة، ومالك سلطات التشريع الربانية فيقضى بها فى خلق الله.. ويعمل بها فى عباد الله.

لم ينزل الله الإسلام هكذا.